وهو الذي حاربَ المرتدِّين ومانعي الزكاة قائلاً: "أينقصُ الدِّين وأنا حي، واللهِ لو منعوني عقالاً بعِيرٍ، لَجالدتُهم عليه"، رغم كل هذه التبِعات والمسؤوليات لم ينسَ مجتمعه مِن عطائه وخِدْماته، كان مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبعض الصحابة، فسألهم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أصبح اليوم منكم صائمًا؟))، قال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله، ((مَن تبِع اليوم منكم جِنازة؟))، قال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله، ((مَن عاد اليوم منكم مريضًا؟))، قال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله، ((مَن أطْعَم اليوم منكم مسكينًا؟))، قال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما اجتمعْنَ في امرئ إلا دخَل الجنة))، كانت الإيجابيَّة تصاحِب أبا بكر - رضي الله عنه - في كلِّ مكان.
قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: "ولما أسْلَم عمر بن الخطاب، لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أيُّ أهْلِ مكَّة أَنْقلُ للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجُمحي، فخرَج إليه وأنا معه أتَّبع أثرَه، وأنظُر ما يفعل، وأنا غلامٌ أعقِل كلَّ ما رأيت وسمِعْت، فأتاه، فقال: يا جميل، إني قد أسلمتُ، فواللهِ ما ردَّ عليه كلمه حتى قام يجرُّ رِداءَه، وتبعه عمرُ، واتبعتُ أبي، حتى قام على باب المسجد، صرَخ بأعْلى صوته: يا معشرَ قريش - وهم في أنديتهم حولَ الكعبة - ألا إنَّ عمر بن الخطَّاب قد صَبَأ، وعمر يقول مِن خلْفه: كذبتَ، ولكنِّى أسلمت، وشهدتُ ألا اله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، فثاروا إليه، فوثَب عمر على عُتبةَ بن ربيعة، فبرَك عليه، وجعَل يضربه، وأدْخل إصبعيه في عينيه، فجعَل عُتْبة يصيح، فتنحَّى الناس عنه، واتَّبع عمر المجالسَ التي كان يجلسها بالكُفْر، فأظْهَر فيها الإيمان".
وفى يوم الفُرْقان، يوم الْتقى الجمعان تجلَّتِ الإيجابيَّة في أعظمِ أشكالها، فهذا سعْدُ بن معاذ يقول لقائده ونبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "قد آمنا بك فصدقْناك، وشهِدْنا أنَّ ما جئت به هو الحق، وأعْطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السَّمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لِمَا أردتَ، فوالذي بعثَك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ، فخُضتَه لخضناه معك، ما تخلَّف منَّا رجل واحد، إنَّا لصبر في الحرْب، صدق في اللِّقاء، ولعلَّ الله يُريك منا ما تقرُّ به عينُك، فسِرْ بنا على بركه الله"، بعد أنْ خرجوا من أجْلِ العِير، جلسوا مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ووعظَهم ونصحهم: ((والذي نفسُ محمَّد بيده لا يُقاتلهم اليوم رجلٌ فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلاً غيرَ مدبِر، إلا أدْخله الله الجَنَّة))"؛ "سيرة ابن هشام".
قالوا: "خُذْ من أموالنا ما شئتَ، واترك منها ما شئتَ، إنَّ الذي تأخذه أحبُّ إلينا مِن الذي تتركه".
وهذا الحُبَاب بن المنذر يُشير بتغوير ما وراءَ الآبار (تخريبه)، ثم بناء حوضٍ يملأ بالماء، فيشرب المسلمون، ولا يشرب الأعْداء، فأخذ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمشورته، وهذا المِقداد - رضي الله عنه - يقول: يا رسولَ الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فاذهبْ أنت وربك فقاتلاَ إنَّا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلاَ إنَّا معكما مقاتلون"، فسُرَّ رسولُ الله، وأشرق وجهه.
وفي الخندق أشار سَلْمان الفارسيُّ بحفْر الخندق، فكان سببًا في نصْر الإسلام والمسلمين، حتى قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سليمان منَّا أهلَ البيت)).
ونِداءُ الحق الذي يَصْدع عبرَ الآفاق، ويبقى بقاءَ السماء والأرض، رؤيةٌ رآها الصحابي عبدالله بن زيد - رضي الله عنه - وصدَّقها عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - وأضاف إليها بلالُ بن رَباح - رضي الله عنه -: (الصلاة خيرٌ من النوم) - رضي الله عنهم جميعًا - وأقر ذلك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكان نداءَ الصلاة.
في قصَّه الرجل الذي جاءَ مِن أقْصى المدينة يسعى، قال: ﴿ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، كم من الجهد بذَل، وكم مِن الثمن دفَع، وكم مِن المسافةِ قُطِعت لإنقاذ حاملِ الحق! إنَّه الإيمان بالفِطرة، والحِفاظ على الدعْوة وتأمين طريقها!
وهذا داعيةٌ آخَرُ إيجابي؛ مؤمِن آل يس: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾ [يس: 20 - 25].
إنَّها قِمَّة الإيجابية في استجابة الفِطرة السليمة لدعْوة الحقِّ المستقيمة، رجلٌ سمِع الدعوة فاستجابَ لها، وحينما استشعرَ حقيقة الإيمان تحرَّكت في ضميره، فلم يستطعِ السكوت، ولم يقْبعْ في داره بعقيدته وهو يرَى الضلال مِن حوله، والفسادَ مِن فوقه ومِن تحته، يستشري في الحياة كلِّها، وإنَّما سعى بالحق الذي استقرَّ في ضميره إلى قومه، يرْفع لِواءَه، ويستظل بظلِّه، ويَمضي في طريقه.
وهذا رجل ثالث بعدَ أن صبَّ الطاغية فرعون بطشَه على بني إسرائيل، فكَّر في قتْل موسى ومَن معه، فعُقِدت المؤتمرات، ودارت المحاورات، وكثُرت المشاورات؛ للخلاصِ مِن الحقِّ وأهله، وبَيْنما هم يتشاورون إذا برجلٍ منهم إيجابيٍّ كان يكتم إيمانَه بموسى مِن قبل، فلمَّا رأى تآمُرَهم على قتْل موسى، ضاق زرعًا وامتلأ غيظًا، واستشاط غضبًا لله؛ ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28].
إنَّه أقام الحُجَّة على فرعون وجنوده، بأجملِ إشارة، وأحلى عبارة، ثم فوَّض أمرَه إلى الله، معلنًا كلمة الحقِّ في وقتها.
يقول صاحِب الظلال سيِّد قطب - رحمه الله -: "التَّبِعة فردية، والحِساب شخصي، وكل نفْس مسؤولة عن نفسها، ولا تُغني نفس عن نفس شيئًا، وهذا هو المبدأُ الإسلامي العظيم، مبدأ التبِعة الفردية القائِمة على الإرادة والتميُّز من الإنسان، وعلى العدْل المطلق من الله، هو أقومُ المبادئ التي تُشعِر الإنسانَ بكرامته، والتي تستجيش اليقظةَ الدائمة في ضميره، وكلاهما عاملٌ من عوامل التربية، فوقَ أنَّه قيمةٌ إنسانية تُضاف إلى رصيده مِن القِيم التي يُكرمه بها الإسلام".