آثار المعاصي
ابن القيم الجوزية ( كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي )
v احذر المعاصي فإنها مضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة .
v احذر المعاصي فإنها حرمان العلم فان العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئ ذلك النور .
v احذر المعاصي فإنها حرمان الرزق .
v احذر المعاصي فإنها تورث وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلا ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تفِ بتلك الوحشة .
v احذر المعاصي فإنها الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم فانه يجد وحشة بينه وبينهم ، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم ، وحرم بركة الانتفاع بهم وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن ، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه ، وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشا من نفسه ، وقال بعض السلف : " إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي " .
v احذر المعاصي فإنها تعسير أموره عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه .
v احذر المعاصي فإنها ظلمة يجدها العاصي في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره .
v احذر المعاصي فإنها توهن القلب والبدن ؛ أما وهنها للقلب فأمر ظاهر بل لا يزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية ، وأما وهنها للبدن ؛ فان المؤمن قوته من قلبه وكلما قوى قلبه قوى بدنه ، وأما الفاجر فانه وإن كان قوى البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه .. فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانهم عند أحوج ما كانوا إليها وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم .
v احذر المعاصي فإنها حرمان الطاعة فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا إنه يصد عن طاعة تكون بدله ، ويقطع طريق طاعة أخرى ، فينقطع عليه طريق ثالثة ثم رابعة وهلم جرا .. فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها ، وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها والله المستعان.
v احذر المعاصي فإنها تقصر العمر وتمحق بركته ، ولابد فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور ينقص .
v احذر المعاصي فإنها تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضاً ، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ، وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها اعملني أيضا فإذا عملها قالت الثانية كذلك وهلم جرا .. فيتضاعف الربح وتزايدت الحسنات وكذلك كانت السيئات أيضا حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأحسن من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها فتسكن نفسه وتقر عينه ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه ، وضاق صدره وأعيت عليه مذاهبه حتى يعاودها ، حتى إن كثيراً من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها ولا داعية إليها إلا لما يجد من الألم بمفارقتها ولا يزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه برحمته عليه الملائكة تأزه إليها أزاً ، وتحرضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها ولا يزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله إليه الشياطين فتأزه إليها أزاً ..
فالأول قوي جند الطاعة بالمدد فكانوا أكثر من أعوانه وهذا قوي جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه .
v احذر المعاصي فإنها وهو من أخوفها على العبد أنها تضعف القلب عن إرادته فتقوى إرادة المعصية وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية ، فلو مات نصفه لما تاب إلى الله فيأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان لشيء كثير ، وقلبه معقود بالمعصية مصر عليها عازم على مواقعتها متى أمكنه وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك .
v احذر المعاصي فإنها ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه وهو عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها فيقول يافلان عملت كذا وكذا .. وهذا الضرب من الناس لايعافون ، وتسد عليهم طريق التوبة ، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من الإجهار أن يستر الله على العبد ثم يصبح يفضح نفسه ويقول يا فلان عملت يوم كذا وكذا وكذا فتهتك نفسه وقد بات يستره ربه ) .
v احذر المعاصي فإن كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن جهلتم من الأمم التي أهلكها الله عز وجل ، فاللوطية ميراث عن قوم لوط ، وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص ميراث عن قوم شعيب ، والعلو في الأرض والفساد ميراث عن قوم عاد ، والرذائل والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود ، فالعاصي لابس ثياب بعض هذه الأمم .
v احذر المعاصي فإنها سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه قال الحسن البصري : " هانوا عليه فعصوه ، ولو عزوا عليه لعصمهم ، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد ، كما قال الله تعالى : { ومن يهن الله فماله من مكرم } " وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم ، أو خوفا من شرهم فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه .
v احذر المعاصي فإن العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه ، وذلك علامة الهلاك ؛ فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله ، وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال : " إن المؤمن يري ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار " .
v احذر المعاصي فإن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم ، قال أبو هريرة : " إن الحباري لتموت في وكرها من ظلم الظالم " ، وقال مجاهد : " إن البهائم تلعن عصاة بنى آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر ، وتقول هذا بشؤم معصية ابن آدم " وقال عكرمة : " دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون منعنا القطر بذنوب بني آدم فلا يكفيه عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنه من لا ذنب له .
v احذر المعاصي فإنها تورث الذل ولا بد ؛ فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى ، قال تعالى : { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } أي فليطلبها بطاعة الله فإنه لا يجدها إلا في طاعته وكان من دعاء بعض السلف : " اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك " ، قال الحسن البصري : " إنهم وان طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، إن ذل المعصية لا تفارق قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه " وقال عبد الله بن المبارك :
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
v احذر المعاصي فإنها تفسد العقل فإن للعقل نوراً ، والمعصية تطفئ نور العقل ولابد ، وإذا طفئ نوره ضعف ونقص ، وقال بعض السلف : " ما عصي الله أحد حتى يغيب عقله " وهذا ظاهر فإنه لو حضر عقله لحجزه عن المعصية وهو في قبضة الرب تعالى أو يجهر به هو مطلع عليه وفي داره على بساطه وملائكته شهود عليه ناظرون إليه وواعظ القرآن نهاه ، ولفظ الإيمان ينهاه ، وواعظ الموت ينهاه ، وواعظ النار ينهاه ، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها .. فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله والاستخفاف به ذو عقل سليم ؟
v احذر المعاصي فإنها إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين ، كما قال بعض السلف في قوله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } قال : " هو الذنب بعد الذنب " وقال الحسن : " هو الذنب على الذنب حتى يعمي القلب " وقال غيره : لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم ، وأصل هذا أن القلب يصدي من المعصية فإذا زادت غلب الصدى حتى يصير راناً ، ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختما ، فيصير القلب في غشاوة وغلاف فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله ، فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد .
v احذر المعاصي فإنها تدخل العبد تحت لعنة رسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه لعن على معاصي والتي غيرها أكبر منها ، فهي أولى بدخول فاعلها تحت اللعنة ، فلعن الواشمة والمستوشمة والواصلة والموصولة ، والنامصة والمتنمصة ، والواشرة والمستوشرة ، ولعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ، ولعن المحلل والمحلل له ، ولعن السارق ، ولعن شارب الخمر وساقيها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه ، ولعن من غير منار الأرض وهي إعلامها وحددوها ، ولعن من والديه ، ولعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا يرميه بسهم ، ولعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ، ولعن من ذبح بغير الله، ولعن من أحدث حدثا أو آوي محدثا ، ولعن المصورين ، ولعن من عمل عمل قوم لوط ، ولعن من سب أباه وأمه ولعن من كمه أعمي عن السلام ، ولعن من أتى بهيمة ، ولعن من رسم دابة في وجهها ، ولع من ضر بمسلم أو مكر به ، ولعن زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ، ولعن من أفسد امرأة على زوجها أو مملوكا على سيده ، ولعن من أتى امرأة في دبرها ، وأخبر أن من باتت مهاجرة لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ، ولعن من انتسب إلى غير أبيه ، وأخبر أن من أشار إلى أخيه بحديدة ؛ فإن الملائكة تلعنه ، ولعن من سب الصحابة ، وقد لعن الله من أفسد في الأرض وقطع رحمه وأذاه وأذى رسوله ، ولعن من كتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى ، ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة ، ولعن من جعل سبيل الكافر اهدي من سبيل المسلم ، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبس المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل ، ولعن الراشي والمرتشي والرائش وهو الواسطة في الرشوة ولعن على أشياء أخر غير هذه فلو لم يكن في فعل ذلك إلا رضاء فاعله بأن يكون ممن يعلنه الله ورسوله وملائكته لكان في ذلك ما يدعو إلى تركه .