ليلة زفاف دامية
..
كثيرة حفلات الأعراس في ربوع فلسطين ، ما أطيب
رائحتها ، وأكثر عشاقها ، الكل يفرح لفرح العريس ، حينما تُزف عروسه إليه ، النساءتزغرد ، والرجال مهنئون ، والأولاد يمرحون ويلعبون ، في أيديهم اللُّعَب ، وملابسهمتزهو بألوانها المختلفة .
لكن العرس الفلسطيني ليس كأي عرس ، إذا حضرته شممت
رائحة المسك ، وأي مسك لا تجده في عالم الدنيا ، فكثير من الصحابة – رضوان اللهعليهم-شموا رائحة الجنة وهم في الدنيا ، وما فصلهم عنها إلاّ بضع تميرات فرموها مناليد ، وتقدّموا فوصلوا إلى جنات النعيم .
عريسنا حقيقة زفّ لعروسه ، وهو يرتدي
بدلة عرسه ، ورائحة الطيب تفوح من ملابسه ، بل من جسده ، كان طويل الجسم أسمرالبشرة ، لا تغادر الابتسامة شفتيه ، كلما لاقى أحداً صافحه وسلّم عليه ، وكان يقبضعلى يد صديقه فلا يتركها حتى يبادر الآخر بترك يده ، إنه قوّام ليل ، صوّام أيّامالإثنين والخميس ، هادئ الطبع لا ينفعل ، مكسور النظر إلى الأرض ، لا يطيش له نظرذات اليمين وذات الشمال ، سئل عن ذلك .. لماذا أنت هكذا ؟ فقال : الحياء شعبة منالإيمان .
إذا خلا بنفسه قرأ القرآن بصوت مسموع ، إذا خالط الآخرين ترى
حركة شفتيه ، ظنه بعض الناس أنه يعاني من رعشة في شفتيه ، وعندما سئل ضحك وقال : أمر طبيعي .. فألحّ عليه بعض الإخوة ذات مرة ، فقال : الأعمار دقائق معدودة ، فمافات لن يعود ، وعلينا استغلال الوقت الذي نُسأل عنه غداً ، أما إصراركم على الإجابةلماذا هذه الرعشة على شفتيك فأقول : –الحمد لله ما مرّت عليّ ساعة إلاّ وأنا معكتاب الله تعالى ، أو في تسبيح أو تهليل ، فلا أدع مجالاً للشيطان أن يدخل ذاكرتي ،وإذا خلوْتُ بنفسي رفعت صوتي بقراءة كتاب الله تعالى .
هكذا حياتي لا يوجد فيها
الفراغ الذي يدّعيه الناس ، ولا الملل الذي يُمرضهم ، ولا الشرود الذهني الذييضيعهم .
هذا هو صاحبنا عريس هذه الليلة .. جاء ليدخل على عروسه ، وإذا بقوات
الاحتلال تداهم المنزل ، بحثاً عن مطلوب نتيجة بلاغ كاذب ، والمُبلِّغ رجل حاسدحاقد ، يريد أن يوقع في أهل العريس غصّة في نفوسهم ، وألماًً في قلوبهم ، وجعلفرحهم نكداً .
أطلق الجنود النار لترويع الناس ، وتثبيتهم في أماكنهم حتى لا
يغادر أحد منهم المكان ليتم القبض على المطلوب .
وكانت
بداية رقصات العريس ، إذ هوت الرصاصة الأولى ، فاخترقت قلبه والثانية في رقبته ،أما الثالثة ففي الرأس ، فهوى العريس أرضاً يفوح منه المسك ، الدم أحمر قاني ،والرائحة رائحة المسك ليس لها في الدنيا مثيل ، وانطلق صوت الأم - لكن الصبر عندالصدمة الأولى - قالت : إني أزغرد لهم ، لقد زُفّ في هذه الليلة زفافين
لعروسين
اثنتين ، وانهالت عليه تقبّله ، وهو كالوردة يتثنى بين يديها ، الناس لا تصدّق ،أهي زغاريد فرحة عرس !! أم أن الأم أصابها انهيار عصبي فأصبحت لا تميّز بين العرسوالعرس !
قالت للناس : اسمعوا .. إن الله اختاره
لزوجته من الحور العين قبل أن يدخل على زوجته من الآدميين ، لا تظنوا أني جُننت ،بل أنا بكامل قواي العقلية ، باركوا لي .. باركوا لي .. ما أحسن اختيار الله ، وماأفضل نعمه ، أريده عريساً في الدنيا ، وأراده الله عريساً في الأخرى ، مبروك ياولدي .. مبروك يا ولدي ، يا صاحب الزفافين ، أنت إبني وأنا أمك ، مبروك مبروك ياولدي .. وانهالت الدموع من عينيها وأخذت تقبّله والناس يقولون لها : كفى كفى ، وهيتقول : ألا يحق للأم أن تُودّع ولدها !! فهي تفرح لفرحه ، دعوني أُشبِع ولدي قبلاتقبل أن تقبّله زوجاته المنتظرات ، الأولى ها هي ترتدي بدلتها البيضاء ، وتنتظردخوله عليها .. والثانية أيضاً في انتظاره ، ولكن لا نراها .
أخذ الناس يبكون ، وانقلب العرس إلى حزن ، وأما العروس التي كانت في
الانتظار ، نزلت وتقدّمت لزوجها ، فنظرت إليه وقالت كلمتها المشهورة : كنت لي اليوم، ولكنك حُرّمت عليّ ، فأصبحت لغيري ، وزُففت لها وتركتني ، اللهم اجمعني معه غداً، ولا تُفرّق بيننا يا رب العالمين .
عاث جنود الاحتلال في المدعوّين تنكيلاً ،
وفتّشوا المكان ، ثم انسحبوا تاركين وراءهم شهيداً يتلطّخ في دمه ، وبات الناس فيهرج ومَرج ، فأصرّت الأم والأب على إدخاله على عروسه الليلة قبل الغد ، وقالوا : لاتتركوا محمداً بدون عروس هذه الليلة ، أسرعوا في إجراء الدفن الليلة قبل الغد ،وسرعان ما نُفّذ طلب الأبوين ، ودفن العريس الشهيد .
وأما أنتِ أيتها
العروس ، ما بالك صامتة واجمة لا يرتد إليك طرف ، وما كان منها إلاّ أن وقفت وقالت : دعوني أُغيّر ملابسي ثم أرجعوني إلى أهلي حتى يشاء الله أن أُزَفّ مثل هذا الزفافالذي زُفّ فيه زوجي إلى زوجته .
وفي الصباح كان رجوع العروس إلى بيت أهلها ،
ودامت الأفراح بل التعازي لتلك الدار في ذاك المخيم ثلاثة أيام ، والناس يُعزّون ،والكل يبارك .. وكان حديث الشهر ( العريس الشهيد .. الشهيد العريس ) . تم بحمدالله
بقلم الأستاذ الشيخ
إسماعيل محمد ربعي
رئيس مركز ابن باز الخيري الإسلامي / فلسطين