أيها الحبيب !
أرجو أن تلحظ معي بدقة استهلال الآية الكريمة: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) فالعبادة لله تعالى وحده هي خالص الحب… وقمتّه وذروته، وثنَّى عزوجل بقوله: (وبالوالدين إحساناً) فالإحسان إليهما رافد صغير من بحر الحب يتدفق رقراقاً..
ثم فصَّل سبحانه كيفية الإحسان، بالقول والفعل، بالكلمة الطيبة الكريمة، وخفض الجناح مع الرحمة.
وقال رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه لمن سأله عن أحقّ الناس بصحبته، [أمك أمك أمك … ثمّ أبوك ] رواه البخاري ومسلم .
وقال أيضاً: [ أنت ومالُك لأبيك] رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد بألفاظ متقاربة .
ويطول بنا البحث لو استعرضنا بالتفصيل القواعد والأصول التي تقوم عليها علاقة كل من الطرفين بالآخر . الأبوين والأولاد . وحقوق كل على الآخر.
ويكفينا القول إن الحب - والحب وحده - هو القاعدة الأساسية، أما العواطف الأخرى فهي منبثقة عنه، وتتشكل من خلاله، وتستقي من ينبوعه الذي لا ينضب
ذوو الرحم ولُحمة الحب
وهي درجة أو طبقة أخرى تمضي عُلواً…
فذوو الرحم أقارب المرء وأهله، وإن شئت فقل هم أسرته الكبرى… والرحم مشتقة من الرحمة، فهي بحد ذاتها تتضمن تلقائياً معنى الود والحب، والكل يرجع إلى (الرحمن - الرحيم).
وفي حديث قدسي، يقول الله سبحانه وتعالى للرحم : ( ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك) رواه البخاري ومسلم .
ناهيك بالآيات البينات في القرآن الكريم التي تحض على صلة ذوي الأرحام (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)[الأنفال75] .
المجتمع الإسلامي في وحدة الحب
ونمضي في البناء الهرمي صعوداً لنبلغ طبقة المجتمع الإٍسلامي. فماذا يقول الله تعالى في نوعية العلاقة التي تحكم أفراده؟ وما هي الوشائج والصلات التي تشدهم بعضاً إلى بعض، ليكونوا وحدة متماسكة ؟
( إن هذه أمتكم أمةً واحدة)[الأنبياء92].
(محمدٌ رسولُ الله والذين معه أشداء على الكفار رُحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأهُ فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه . يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً)[الفتح29] .
(إنما المؤمنون إخوة)[الحجرات10].
ولا حاجة بنا إلى التعليق، فإن في مضامين آيات الله البينات ما يُعجزنا عن الكلام، ويقصر بعباراتنا عن الإيضاح.
وماذا يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم؟
[المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه] رواه البخاري ومسلم .
[الدين النصيحة… لله ولكتابه ولرسوله و لأئمة المسلمين وعامتهم] رواه البخاري ومسلم .
[لا تؤمنوا حتى تحابُّوا ] رواه مسلم .
وغير ذلك كثير أيضاً..
فالحب - أيها الحبيب - كما هو ملحوظ من مدلولات الآيات الكريمة الأحاديث الشريفة - هو القاعدة الثابتة التي يرتكز إليها بناء المجتمع الإسلامي، بل هي حصن جديد يعلو ويسمو بالمسلم المحب .
حب الصفوة والقدوة
وتطوى مسافات الزمن بالنسبة إلى كل مسلم محب، أي موقع وُجد فيه، ليرتفع ويسمو في البناء الهرمي.
يرتفع إلى الصفوة والقدوة، إلى الصحابة رضوان الله عليهم أعلام الهُدى، ومنائر التقى، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وكانوا الدعامة الراسخة التي قام عليها صرح الإسلام.
أولئك الذين هداهم الله فبهداهم نقتدي، وعلى محبتهم نمضي.
الذين قال فيهم رسولنا الأمين:
[ لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدًّ أحدهم ولا نصيفه ] رواه البخاري ومسلم
وقال فيهم أيضاً: [وأصحابي أَمَنَة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون] رواه مسلم بنحوه
"الصدّيق" و"الفاروق" و"ذو النورين" وفتى الإسلام وبطله "علي"، وسيد الشهداء "حمزة"، وأمين الأمة "أبو عبيدة"، وسيف الله "خالد" و… و… رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولا يكون الحب لهؤلاء الصفوة نزعةً صوفيةً، نخرّ عليها صُماً وعُمياناً ، تهتز بها المشاعر والأحاسيس، وتنهل المآقي بالدموع، بل تكون ترجمةً حيةً عاملة، واقعية الحركة، تصل بين الحس والعقل والإرادة…
فإذا الحب حقيقة وليس تجرداً، وفعلاً لا وهماً أو توهماً.
حب سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم :
ثم يدنو المسلم المحب فيتدلى، ويصبح قاب قوسين أو أدنى، ويشمخ بالبناء حتى يبلغ ما قبل الذروة، ويبدأ الاستعداد النهائي لعملية التوجه الخالص بالحب، ويصيخ بالقلب والسمع والبصر، وبكل نبض في كيانه إلى موحيات الله تعالى تستجيشه وتستقطبه حول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)[التوبة128].
(وإنك لعلى خُلق عظيم)[القلم4].
(محمد رسول الله)[الفتح29].
(وخاتم النبيين…)[الأحزاب40]
( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويُتم نعمته عليك ويهديَك صراطاً مستقيماً، * وينصرَك الله نصراً عزيزاً)[الفتح2-3].
وغير ذلك كثير، يحفل به الكتاب الخالد.
ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم : [ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه ] (رواه أحمد).
وتحضرني حالة ذلك الصحابي الجليل الذي كان يردد أنه لا يطيق فراق النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ما ابتعد عنه قليلاً بسبب من أسباب الحياة، معيشة أو عملاً أو تفقد أهل، ألـحَّتْ عليه نفسه بالشوق إلى رسول الله، فما يلبث أن يُبادر إلى لُقيا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه .
كما تحضرني واقعة "مصعب بن عُمير" رضي الله عنه مع أمه التي غاب عنها غياباً طويلاً موحشاً، بعيداً في المدينة، فلما آب إلى مكة ، وجاءها بعد لقائه المصطفى عليه السلام بدأته بقولها: يا عاق… وراحت تعنفه على نكرانه لها، فقال: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم…
و "أم عمارة" - رضي الله عنها-…
سيدة من المسلمات المبايعات الأنصاريات، تَتَرَّسُ يوم "أحد" دون رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه وافتداءً له، ولقد أصيبت يومئذٍ بجراحاتٍ خطيرة.
فلما أبدى "عليه السلام" جزعه عليها قالت: ادع لنا يا رسول الله أن نكون رفقاءَك في الجنة، فدعا لها: فقالت: ما أُبالي بعد الآن، أوقع عليَّ الموت أم وقعتُ عليه.
إنها صُورٌ ونماذج تؤكد - من غير ريب - صدق الحب وحقيقته .
وإذا ما كنا قد قلنا : إننا لا نريد أن يكون حبنا للصفوة الأخيار من الصحابة الكرام نزعة صوفية، أو لحناً لنشيد أو قصيدة تطرب لها الأسماع دن أن يترجم إلى فعل حيّ نابض، إذا ما قلنا ذلك… فإن حُبنا للنبي صلى الله عليه وسلم أجدر وأولى… ولتكون الوصلة التاريخية عبر الزمن متينة راسخة غير مهلهلة ولا مهزوزة، وليكون البناء الهرمي الذي عنينا متماسك الطبقات، متناسق التكوين، سامق الشموخ، في ديمومة واستمرار.
وبعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في لفتة كريمة في النبوة الصادقة وانسجاماً مع الرسالة الخالدة يوجهنا إلى حقيقة الحقائق في الحب، إلى الحقيقة المطلقة، إلى خلوص التوحيد، إلى… حب الله تعالى.. يقول عليه الصلاة والسلام:
[ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ]
رواه البخاري .
وحب الرسالة بكليتها حب لله.. طاعة وعبادة وخضوعاً
حب الله جل جلاله :
ويبلغ المسلم المحب الصادق الذروة ، ويفنى كلِّيَّة في حب الله تعالى، فإذا كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته، بل كل لفتة من لفتاته وخلجة من خلجات نفسه تنطق بحب الله، خافضة رافعة… عاملة ناصبة.. جاهدة مجاهدة.
يتعامل مع الوجود كله بحب الله تعالى، ووفق ناموس الحب الذي يلفُّ هذا الوجود، ثم يوقظ النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسنا ما غفا وتخدّر من قواعد المنطق وأصول التسلسل، وما أخلد من عالي الأشواق إلى الأعماق، وتمكنت منه نوازع الدنيا فلم يحلق في الأجواء.
يعلنه "عليه السلام" ويوقظه ويحثه حتى لا تبقى محبة الله تعالى على أفواهنا كلمة جوفاء خاوية خالية، عارية عن الحقيقة بقوله عليه السلام وحياً كريماً منـزَّلاً على قلبه الشريف: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )[آل عمران31] .
ومحبة العباد لله تقتضي حب الله تعالى لعباده ومن ثم يكون التعامل الكلي في الوجود مع الذات الإلهية ومنها بالحب، وبالحب وحده.
راجع الحب والجنس لمحمد علي قطب
والداء والدواء - لابن قيم الجوزيه