الحمد لله رب العالمين القائل سبحانه وتعالى: ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ) سـورة البقرة 245وصلى الله وسلم على نبيه محمد القائل : (( من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل )) رواه مسلم.
ورضي الله عن أصحابه الذين قدموا أنفسهم وأموالهم لله وفي سبيله (( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) سورة الحشر:9 .
نسأل الله تعالى أن يجعلنا على منهاجهم سائرين ، وفي وجوه البر و الخير لأموالنا باذلين.
لا شك - إخواننا الكرام - أن المال عصبُ الحياة ، وهو العمود الفقري لأعمال البر والخير ، وهو ضرورة لتحقيق الأعمال والمشاريع الإسلامية ، وهو وسيلة لرفع بؤس البائسين وحاجة المحتاجين وصلة الأرحام والقيام بواجب الإحسان والصدقة و الإنفاق والبر ، وهو وسيلة لتحصيل رضوان رب العالمين والفوز بجنات النعيم ونعم المال الصالح للعبد الصالح الذي يتقي بماله ربه ويصل رحمــه ويعــرف لله فيه حقاً ، فهو بأفضــل المنــازل ، به يكفل الأيتام والدعاة وتعمر المساجد وتحفر الآبار وينشر العلم والدعوة ويقاوم المد الكفري والبدعي والعلماني.
ولما كان للمال هذه الأهمية والخطورة جعل الله الزكاة - وهي عبادة مالية - أحد أركان الإسلام. وقدّم سبحانه وتعالى الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في كل آيات القرآن الآمرة بالجهاد ماعدا آية واحدة وهي آية البيعة : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .. ) سورة التوبة: 111 .
وهذا التقديم للمال هو تقديم ترتيب ، والمعنى أن لا يتم الجهاد بالنفس حتى يتم الجهاد بالمال ، فالمال نعمة لمن بذله لله وفي الخير وفتنة لمن بخل ومنع وقبض يده عن الصدقة ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) سورة محمد: 38 .
وقد جاءت النصوص ببيان فضل الصدقة وزمانها ومكانها وشروط قبولها وبيان الدواعي والبواعث على البذل بها ، فمن تأملها واستحضر عظيم ثوابها وجد نفسه سخية طيبة بها رغبة بما أعده الله جل شأنه لأهلها من سعادة الدنيا وكرامة الآخرة.
وهذا البــحث مستفاد فــكرته من رسـالة لمصـــطفى الشيخ مع زيادات وإضافات وتعديل.
نسأل الله أن يكتب لنا به أجر من دلَّ على خير وثواب الناصحين والمتصدقين .. آمين.
الصدقة برهان على الإيمان وطريق إلى الجنان
جُبِلت النفوس على حب المال وتحصيله ، بل وجمعه وتكديسه قال الله تعالى: ( زين للناس حُبَُ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) سورة آل عـمران: 14 وتأمل التعبير(( القناطير المقنطرة )) تدرك مدى تعلق النفوس بتكديس متاع الحياة الدنيا. وقال الخبير البصير سبحانه وتعالى: ( وإنه لحب الخير لشديد ) سورة العاديات: 8 . والمعنى أن الإنسان كثير الحب للمال هذه المحبة هي التي حملته على ترك الحقوق الواجبة عليه فمن قصر نظره على هذه الدار وغفل عن الآخرة قدم شهوة نفسه على رضا ربه فجعلها أكبر همه ومبلغ علمه في سبيلها يحيى ولأجلها يجاهد وعليها يلقى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن نظر إليها بعين قلبه وبصيرته وتأمل وصدق أي القرآن وحال نبي الإسلام والمتبعين له بإحسان أدرك أن الدنـيا متـاع قلـــيــل وظل زائل كسراب بقيعة ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ، وعلم أن الآخرة خير وأبقى ، وأنها هي الحيوان ( الحياة الباقية ) ، وأن ما عند الله خير للأبرار علموا أنها ليست لحي وطنا ، فطلقوا الدنيا وخافوا الفتنا جـعلــوها لجــــة واتخـــذوا صالح الأعـــمال فيــها ســفنا.
وهذا الصنف الثاني ، الصنف الطيب الزكي المبارك بذل نفسه ووقته وماله لله وفي سبيله. إنه يتصدق بماله لهدف ولغاية معلومة محددة إنه يبتغي الجنة ، يسأل الواحد منهم نفسه قائلاً: لماذا أتصدق؟ وكيــف؟ ومتى؟فــيأتيه الجواب من كــتاب الله الكــريم وحــديث نبــيه الصادق الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وهو جواب صريح فصيح واضح مبين متمثلاً في هذه الأجوبة المفصلة المدللة المعللة ، وفي عرضها تذكير وتحفيز وتنشيط وإيقاظ وتنبيه وتعليم.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
بواعث الصدقة وصفات المتصدقين
لماذا أتصدق .. وكيف .. ومتى ؟
1 - أتصدق بإخلاص لوجه الله تعالى ، ولا أحبط صدقتي بالمن والأذى والـــريــاء ، ورغــبــة بــــثـــواب ربي سبـــحـــانه ، قال الله تعـالى: ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون) البقرة: 262 .
وقال جل شأنه: ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر .. ) البقرة: 264 .
2 - أتصدق ونفسي راضية منشرحة على وجه السماحة وابتغاء رضوان الله عن طواعية واختيار مجانباً بذلك صفات المنافقين الذين قال الله تعالى عنهم: ( ولا يأتون الصلاة إلاَّ وهم كُسالى ولا ينفقون إلاَّ وهم كارهون ) التوبة: 54 ، متحلياً بصفات المؤمنين الذين عناهم الله عز وجل بقـــوله: ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم) البقرة: 265 .
3 - أتصدق لأن الصدقة قرض لله ، والقرض يرجع لصاحبه ولا يضيع ، وقبيح أن يستقرضنا الله فلا نقرضه مع أن المال كله ماله والخلق كلهم عبيده ووعد بالمضاعفة عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة بحسب ما يقوم بقلب المتصدق وتحقق الشروط. قال تبارك وتعالى: ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم ) الحديد: 11 ، وقال سبحانه: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يـشاء والله واسع علـيم ) البقرة: 261 ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات) البقرة: 276 .
4 - أتصدق لأن المال مال الله تعالى وما أنا إلا مستخلف في إنفاقه لينظر سبحانه كيف أعمل فيه ، قال تعالى : ( وأنفقوا ممَّا جعلكم مستخلفين فيه) الحديد:
5 - أتصدق من طيب مالي ومما أحب لأن ذلك من البر: وهو اسم جامع للخيرات وهو الطريق الموصل للجنة ، قال الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ... ) البقرة: 267 ، وقال تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران: 92 ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )) رواه مسلم ، وقال أيضاً : (( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب ... )) رواه البخاري.
6 - أتصدق سراً وعلناً ، لأن ذلك تجارة مع ربي الرحمن الرحيم تورثني النعيم المقيم في جنات النعيم والإخفاء خير من الإظهار ، إذا أعطيت للفقير ، فأما إذا صرفت في مشروع خيري فربما كان الإظهار خيراً لحصول الأسوة والاقتداء وتنشيط النفوس على أعمال الخير إذا لم يخف المتصدق الرياء مراعاة للمصلحة.
قال تعالى: (( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)) الرعد: 22 - 24 .
وقال عز وجل: ( إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم ) البقرة: 271 .
وقال جل شأنه : ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهـــم سراً وعــلانية يـــرجون تـــجارة لن تبـــور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفورٌ شكور) فاطر: 29 - 30 .
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )) متفق عليه عن أبي هريرة مرفوعاً.
7 - أتصدق في السراء والضراء (( اليسر والعسر )) فإن أيسرت أكثرت النفقة ، وإن أعسرت لم أحتقر من المعروف شيئاً ولو قل فالله يضاعفه وذلك من صفات المنفقين المسارعين لجنة الله ومغفرته.
قال تعالى: ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء .. ) آل عمران: 133 – 134 .
8 - أتصدق في حال صحتي وغناي لأن أفضل الصدقة ما كان كذلك ، وفي الحديث : (( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى )) رواه النسائي وأحمد ، وقد سئل صلى الله عليه وسلم : (( أي الصدقة أعظم ؟فقال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى )) متفق عليه.
9 - أتصدق لأنه يعود على نفسي بذلها وبخلها وهو سبحانه يوفي ويعظم أجر المتصدقين ، قال تعالى: (( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم)) البقرة: 272.
( وما تنفقوا من خير يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون ) البقرة: 272 .
( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً ) المزمل: 20 .
( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) محمد: 38 .
10 - أتصدق لأني أحسن الظن بربي وأوقن أن الله يخلف على المتصـدقين خــيراً مما أنفقوا لكمــال كــرمه سبحانه ، قال تعــالى: ( وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفهُ وهو خير الرازقين) سبأ: 39 .
وروى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من يوم يصبح العباد فيه ، إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعطِ منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً )).
11 -أتصدق لأن الصدقة بالفضل وهو ما زاد عن الحاجة خير وإمساكه شر.
روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ، ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول ، واليد العليا خير من اليد السفلى )).