علماء ومفكرون عاصرتهم (3)
من أجلِّ العلماء الربانيين الراسخين في العلم اليوم ممن عرفتهم، وأنست بهم، واستفدت منهم مبكراً، سماحة العلاّمة الفقيه الأصولي الشيخ: عبدالله شيخ المحفوظ بن بيه.
وهو اليوم واحد من أشهر علماء المسلمين، ونائب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
كان جاراً لنا ولم يزل في حي الأمير فواز أكثر من عشرين سنة، وهو عمدة الحي الشرعي، وآراؤه وفتاواه محل قبول وثناء في كل الأوساط.
بدأ أول ما بدأ بدرس اقترحته عليه، ووافق على فكرته بعد طول تأمل منه كعادته في (مسجد الفتح) قبل عشرين عاماً من الآن، أي في حوالي عام (1410هـ)، وكان في شرح سيرة ابن هشام، وتم تسجيل الكثير من الحلقات على أشرطة، وأفاض الشيخ في الشرح بشكل مفصَّل وعميق.
والشيخ -متَّع الله به- في السيرة النبوية أعجوبة، ومعرفته بدقائق السيرة مما يلفت النظر، وحفظه للمنظومات المتعلقة بالأنساب وشجرة السيرة ملفتة، وهذا سرُّ تعلقنا بدرسه وبسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مبكراً.
ثم بعد ذلك دامت صلتي بالشيخ من خلال دراستي مع بعض أبنائه وتلاميذه في داره في شرح كتاب (رسالة ابن أبي زيد القيرواني) في الفقه المالكي، وكذا في عقيدته، ومن ثمَّ دروس في أصول الفقه، واللغة العربية.
وكانت الدروس في غاية العمق وبعد النظر ، ومن منهجية الشيخ في الشرح إحضار أمهات الكتب للتأكد من راجح المذاهب المختلفة، وكذا صحة الأحاديث، وقد أثرى أكثر من خمس سنوات شبه متواصلة الدروس، وأشبعها بآرائه وترجيحاته ونظراته العميقة، حتى أكرمني المولى جل جلاله، فاخترت كتاب (الفتح الرباني شرح نظم رسالة ابن أبي زيد القيرواني) التي درسناها على الشيخ خمس سنوات، رسالة علميَّة (للدكتوراه)، مع الدراسة والتحقيق لهذا الشرح، والتدقيق في نص النظم وتوثيقه، وتخريج أحاديث الكتاب وبيان صحيحه من ضعيفه.
وخرج الكتاب الذي أصرَّ الشيخ (بن بيه) على تقديمه بنفسه من غير طلب مني، بل وحرص -متَّع الله به- أن يكرم تلميذه بالتقديم، بل والتأكيد على تقديمه هو، حتى كان مما قال فيها:
والعلامة (عبدالله بن بيه) له مميزات وخصائص، أخذت منها، كوني واحداً من أقرب تلاميذه إليه، وأخصهم عنده، ومن ذلك:
1- رسوخه في العلم بالتلقي والمتابعة: فالشيخ عبدالله راسخ العلم من خلال ما تلقاه عن شيوخه في موريتانيا عبر الطريقة التقليدية في الدراسة والتمكين في حفظ وضبط الفنون المختلفة، لكن الشيخ فوق هذا التمكن زاد في استمرارية مطالعته وتركيزه على كتب المتقدمين من الفقهاء، فصار خبيراً بحق، ملتقطاً لدرر ونفائس الأئمة بفن، متمرس في اكتشاف مظان الأقوال بأعجوبة.
2- نذر وقته للبحوث العلمية: وهذه خاصية عظيمة في الشيخ، فكثيراً ما ينكب على مسألة، بل ويحدثك وعينه على مخطوط، أو هامش مليء بالنفائس، أو استجلاء لرأي فقيه أحد المذاهب.
والشيخ نظراً لعمق قراءته في دواوين العلماء ، ومعرفته المميزة
بمظانِّ المسائل، استطاع أن يوظفها في بحوثه القيمة، التي أثرته كثيراً، وأثرت ب هال مجالس التي يُسأل فيها عن مسائل مستجدّة، فيجدون فيها الأجوبة الحاضرة، والأقوال المقنعة، والمناقشات المستفيضة المرتبة، مع سرد لشواهد ونقولات وأبيات مذهلة وحاضرة، وربط بالواقع، مبني على معرفة ودراية بحقيقة المستجدات مع قيل فيها سواء في دراسات العرب أو الغرب أو حتى المستشرقين، بل وما قيل في المسألة في لغة العرب ومصطلح الغرب!
3- يدعو إلى الحق: فالشيخ -يحفظه الله- يبحث دائماً في الحق، ويقول به سواء وافق رأيه الكثير أو خالفهم، وهذا دليل صدق وقبول.
وقد أعجبني تعليق العلامة الشيخ يوسف القرضاوي على شيخنا العلامة (بن بيه) في إحدى مؤتمرات (المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء) عندما تشدد في مسألة، ويسَّر في أخرى، فكان تعليق د. القرضاوي: أنت يا شيخ عبدالله أحياناً تأخذ بتشدد ابن عمر، وأحياناً تأخذ برخص ابن عباس!
وهذه اللطيفة من العلامة القرضاوي في صديقه العلامة (بن بيه) حقيقة، ووصفه بليغة، ولكن العلامة (بن بيه) في موقفه بين شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس، إنما يعود لفقه المسألة، وقوة أدلتها، وطبيعة ورودها، وكيفية تحقيقها.
ولذا فهو رجل لا يُشق له غبار في بناء الأحكام، أو ما يسمى بأصول الفقه، ولذا يعتدُّ برأيه في ت صور المسائل، لأنه يعرف ما يقبل من تخريجها وما لا يقبل!
4- لديه منظومة متكاملة مترابطة: وهذه لا يعرفها إلا من جالسه طويلاً، وسأله كثيراً، واستمع له متحدثاً وقرأ له متعمقاً.
فالشيخ -حفظه الله- تستطيع أن تقول أنه كوَّن لنفسه (منظومة متكاملة مترابطة)، فأنت عندما تحدثه عن مسألة شرعية، أو قضية إسلامية فكرية، فتجده بسلاسة، يربط مسألة أصولية برأي فقيه بفتوى إمام ببيت شاعر في لحظة واحدة، ومن جهات مختلفة، لينظم من خلالها رؤية ذات شأن!
وهذه سر صنعته ، ومكونات خلطته أعلنها لأول مرة على الملأ، ولكن دون ذكر تفاصيلها!
حدثه مثلاً عن دقائق الاستنباط في الشريعة، حدثه عن الديمقراطية، حدثه عن البورصات، حدثه عن التجديد، حدثه عن قضايا عصرية متشابكة، لتجد ما أقوله لك بالتمام.
ثم إنك عندما تسمع ستجد أن ما يقوله لقطات تجمعها الفكرة والمنهجية، ولا تجمعها المصادر والمراجع!
وأعتقد أنه تعب كثيراً وكثيراً جداً للوصول إلى هذه الطريقة الخالصة للشيخ والمبهرة لكل من ناقشه فيها.
ومع ذلك فالشيخ ليس متخصصاً بالمعنى الأكاديمي في كل العلوم الدقيقة، بل هو مستوعب لها، ولكنه يسأل ويدقق ويتابع مع المتخصصين فيها.
5- قدوة عملية: وهذه ربما التي يستطيع أن يقول فيها الآلاف من المحبين والمتابعين آلاف القصص والشواهد، فالشيخ رغم كبر سنه وآلامه العارضة والمستمرة، يواصل الأسفار بين القارات، وجدوله مليء بالمؤتمرات والمحاضرات والندوات العالية القيمة، وكم مرّة قلت لعشرات الدعاة: إن الشيخ (بن بيَّه) يخجلكم بكثرة تنقله رغم كبر سنه!!
ولدى الشيخ قبول عند جهات كثيرة رسمية وحكومية وشعبية ودعوية، خطبت ودّه في وزارات وهيئات ولجان متعددة.
وفوق ذلك فالشيخ إنسان حاضر في المسجد جماعة كل الفروض، لا يغيب عنها، ومعروف تبتله في الليل بعد العشاء، وجلوسه في خلوته كل ليله، حتى فترة من الليل، ليمكن بعدها الاتصال عليه وسؤاله عن أمر مهم.
ولا غرو بعد هذا أن نقول أنه عالم موسوعي، وفقيه، وأصولي، ومفكر، وسياسي، وأديب وشاعر.
وبعد، فما قلت ما قلت إلا عن معرفة ودراية ومجالسة طويلة ومستمرة، عن عشرة دامت عشرين عاماً، وعن إشراف مباشر لدرراستي في الماجستير والدكتوراه.
ولا زلت وبفضل الله تعالى، مع الشيخ ملازماً له في لقاءات مستمرة، وجلسات محضرة، وأسفار متعددة.
على العمري