علماء ومفكرون عاصرتهم (2)
لو قيل إن هناك خمسة يعدون على أصابع اليد الواحدة عندهم كل مؤلفات الشيخ بن باز ، وكل ما قيل عنه في كتاب لكنت واحداً منهم!
فلدي بفضل الله كل ما كَتب وكُتب عنه.
هذا الرجل أعجوبة زمانه، وهو نسيج وحده !
لا أعلم رجلاً في العقود الماضية أطبقت الدنيا على إمامته في كثير من الأمور العلمية والربانية والخيرية والحياتية مثل سماحته.
إنه مدرسة متكاملة، وجامعة متنقلة، وجمعيات عاملة في آن واحد.
إنه سماحة العلامة عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-.
بدأت اهتماماتي بفتاواه وأنا طالب في الابتدائي أسمع لفتاواه (نور على الدرب) كل إثنين وجمعة.
وسُرَّ والدي بذلك كثيراً ، كلما أخبرته عما سمعت.
وفي المتوسطة والثانوي أدمنت فتاواه في نفس اليومين، وكنت أناقش فيها صحبي في الفسحة الدراسية.
وجالسته كثيراً عند زيارته لبيت عمي شقيق والدي الشيخ داود العلواني في جدة.
وكم صفا لي الوقت للجلوس بجواره متحدثاً معه، ومستمعاً إليه، ومتشرفاً بتقديمه الطعام سنوات طويلة جداً.
ومن أهم جلساتي الحاسمة معه بعد العشاء في منزل عمي وكان لوحده، فذكرت له ما قيل عن الشيخ المحدث: عبدالرحيم الطحان، وما أشيع عنه من أخبار منقولة بطرق غير صحيحة، وآراء لأئمة بترت في سياق الاستشهاد، ففرح الشيخ بما أخبرته به.
ثم بشرته بمشروعي الأضخم والأهم، وهو جمعي لكتاب فقهي على غرار (فقه السنة) لسماحته مجموع من كتبه ومجموع فتاواه، وما وقَّع عليه في فتاوى اللجنة الدائمة، ولكن أمر الله كان سابقاً فلم يرى جزأه الأول!
أعتقد أن شهرة الرجل وقبول الناس له تغنيك عن التعريف بمزاياه، وقصصه العجيبة.
لكني ألفت النظر هنا إلى جوانب ثلاثة لم يستفد منها كثير ممن أحبه والتزم طريقته، وللأسف!!
أولاً: أن الرجل كان على علاقة ممتدة وقوية مع كل ساحات العمل الإسلامي، يعطيه من ثقته، ويقويهم بنفوذه وإمكاناته، ويبادلهم نصيحته، ويقبل نقدهم، وهذا وسَّع دوائر اهتمامه بهم، واهتمامهم به، ولم يسر على طريقته هذا إلا أندر النادر!!
ثانياً: أن الرجل لا يقول إلا ما يقتنع به، لذا فقوله مقنع للكثير، وقد يسخط قوله البعض.
فإن رأى رأي الحكومات سديداً وقف معهم وأيدهم، رضي من رضي وسخط من سخط، وإن رأى منهم خللاً كتب إليهم وناصحهم بالحق.
وهذه الصفة لم يأخذها منه إلا أندر النادر!!
ثالثاً: أن عطاء الرجل واضح، وصدقه الظاهر ماثل أمام كل الأعمال.
فهو لا يمنع عطاء لأحد، ولا يحرم نفسه الخير لأحد، وهو واضح مع نفسه، مبرمج في مسيرته، صادق في دعوته، عابد في تبتله.
وضوح سيرته وطريقته لم تدع مجالاً لأحد أن يتكلم.
صلواته في الجماعة، ودروسه اليومية، وذكره الدائم، وورعه عن مناصب الدنيا، وشفاعته التي لا تهدأ، وتواصله مع الناس الذي لا يسكن، كلها براهين واضحة ماثلة للعيان.
ومما وقفته مع نفسي، وتنفع الإشادة بذكره هنا، بعد معايشة حقيقية، وقراءة تامة لكل ما كتب، وتتبع دقيق لكثير من التفصيلات، أقول:
هناك مشاريع مهمة تنفع الدارسين في منهج حياة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-:
الأول: فتاواه التي اشتهر بها، وهي تشمل اعتماده على الدليل، وتحرره من أي مذهب.
وسنجد أن الشيخ له أراء واجتهادات وفتاوى عجيبة، وتسامح كبير في أمور يُظن فيها التشدد من مثله، وهي كثرة كاثرة، تحتاج إلى جمع، ودارس مهتم.
الثاني: قناعاته وأسلوب دعوته مع الولاة والحكام والدعاة والمتنطعين والمتطرفين والعلمانيين المعارضين، ففيها جوانب تحتاج متابعة للأسلوب والطريقة خاصة أن فيها نتائج مبهرة، وجمع للكلمة، وحل لكثير من العقبات.
رحمه الله رحمة الأبرار، وجمعنا الله به مع النبيين الأخيار.
على العمري