5- آداب تلاوة القرآن الكريم واستماعه:
لتلاوة القرآن الكريم آداب كثيرة وعديدة، ينبغي أن يراعيها قارئ القرآن، حسْبنا أن نشير إلى طائفة منها باختصار، فنقول:
ينبغي على قارئ القرآن أن يتأدَّب بالآداب التالية:
1- أن يستقبل القبلة ما أمكنه ذلك.
2- أن يستاك تطهيرًا وتعظيمًا للقرآن.
3- أن يكون طاهرًا من الحدثَين.
4- أن يكون نظيف الثَّوب والبدَن.
5- أن يقرأ في خشوع وتفكُّر وتدبُّر.
6- أن يكون قلبه حاضرًا فيتأثَّر بما يقرأ تاركًا حديثَ النَّفس وأهواءها.
7- يستحبّ له أن يبكِي مع القِراءة فإن لَم يبْكِ فليَتَباكَ.
8- أن يزيِّن قراءته ويحسّن صوته بها، وإن لم يكُن حسنَ الصَّوت حسَّنه ما استطاع بحيث لا يخرج به إلى حدّ التَّمطيط.
9- أن يتأدَّب عند تلاوة القرآن الكريم، فلا يضحك، ولا يعبث ولا ينظُر إلى ما يُلْهي بل يتدبَّر ويتذكَّر كما قال - سبحانَه وتعالى -: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [ص: 29]، كما أنَّ على سامع القرآن الكريم أن يقبل عليه بقلبٍ خاشع يتفكَّر في معانيه، ويتدبَّر في آياته، ويتَّعظ بما فيه من حِكَم ومواعظ، وأن يحسن الاستِماع والإنصات لما يُتْلى من قرآن حتَّى يفرغ القارئ من قراءتِه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204].
6- العناية بالعمل التَّطبيقي للقُرآن:
ومن جوانب العناية بالقُرآن الكريم في حياة قارئ القرآن: العناية بالعمل به وتطْبيق أحكامه كما قال - سبحانه -: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 18]، ومهْما اتبع الناس هذا الكتاب فإنَّهم وقْتذاك على الطَّريق الأهدى والأقوم والأرْحم والأحْكم والأعْلى؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9].
وقال - سبحانه -: ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].
كما أنَّه ليس للإنسان إذا أراد الحق إلاَّ هذا الطريق، ولن يكون مستقيمًا أو على صراط مستقيم إلاَّ بهذا القرآن: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ﴾ [يونس: 32]. ولا يعرض عن القرآن، ولا يتنكَّب طريقه وسبيله، ولا يَجحد به إلاَّ جاهل؛ إذ هو العلم الَّذي لا جهل معه: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 49].
وقد نبَّهنا الله في كتابه أنَّه أنزل وحيًا وكتبًا على أممٍ قبلَنا، وحذَّرنا أن نقع فيما وقعوا فيه من إثمٍ أو تقصير، أو تحريفٍ أو انحراف، أو تهاوُن أو تواطُؤ أو تباطؤ، أو كُفر أو ضَلال، وبيَّن - سبحانه - لنا أنَّ كتاب الله أُنْزل ليَحْكم: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105].
وقبول تحكيم كتاب الله ورِضانا بحكمه والتِزامنا به، واعتِصامنا به - هو دليل الإيمان، وإلاَّ فهو الكُفْر والنِّفاق؛ ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
والمسلم كذلك لا يتَّخذ قرارًا ولا يجزم رأيًا ولا يعتقِد عقيدةً، ولا يُسارع إلى أمر ولا يستجيب لدعْوة، ولا ينفر إلى عمل، إلاَّ بعد معرفة حكم الله، وعندئذ يحزم أمره على أساس أمْر الله[8].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ ﴾ [الحجرات: 1]، هكذا وبكلّ ذلك يكون العمل بالقُرآن حياة واقعيَّة يبَيِّنها ذلك الكتاب، ويقوم منهاجها، ويصحّح مسارها، عندئذ نكون عاملين حقًّا بالقُرآن، منفِّذين فعلاً لأحكامه، مسلمين حقًّا لله.
7- الاعتِناء بمعاني القرآن الَّتي عاشها الصَّحابة عمليًّا:
إنَّ وقوف القارئ على تعامُل الصحابة مع القرآن، واعتناءَه بالمعاني والإيحاءات الَّتي حصَّلوها من الحياة في ظلال القرآن - يعرِّفه كيف تقْبِل القلوب الطَّاهرة على القُرآن وتتفاعل معه، فيسْعى ليكون واحدًا من هؤلاء.
روى مسلم وأبو داود عن أنَس بن مالك - رضِي الله عنْه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يصلّي نحو بيت المقدس، فنزلت: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]، فمرَّ رجُل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، قد صلَّوا ركعة، فنادى: ألا إنَّ القبلة قد حوِّلَت، فمالوا كما هم ركوعًا إلى الكعبة.
فهذه الرواية تدلُّنا على نظرة الصَّحابة للتَّوجيهات والتَّكاليف الرَّبَّانيَّة، وعلى قلوبهم المتبوِّئة للإيمان، وهي تتفاعل معها، وعلى الاستِجابة الفوريَّة في التنفيذ والالتزام.
8- تحرير النصوص القرآنية من قيود الزمان والمكان:
القرآن كتاب الله الخالد، صالِح لكلّ زمان ومكان، ونصوصه تُعْطي توجيهات لكلّ بني الإنسان، ويتفاعل معها المؤمنون، مهْما كان مستواهم المادّيّ والثَّقافي والحضاري، وفي أيَّة بقعة في هذا العالم، وفي أيَّة فترة من فترات التَّاريخ.
أقبل الصَّحابة على نصوصه فعاشوا بها، ولَم يقيِّدوها فيهم أو يقصروها عليهم، وأقبل التَّابعون عليْها فعاشوا بها، وهكذا كلّ طائفة من العلماء، فعلى قارئ القرآن أن ينظُر إلى القرآن بهذا المنظار، ولا يَجوز له أن يقيّد النصوص بحالة من الحالات، أو فترة من الزَّمان، إلاَّ ما كان مقيَّدًا، ولا أن يقصرها على شخص أو قومٍ إلاَّ ما كان مقصورًا عليه.
بل عليه أن يحرّر النصوص من قيود الزَّمان والمكان، والأشخاص والأقوام؛ لتُعطي دلالاتها لكلّ النَّاس، وتطلق إشعاعاتِها لكلّ جيل، وتنشُر أضواءها على العالمين، أمَّا قصْر النصوص على حالة أو فترة، أو شخص أو بلدة أو قرن، فإنَّه سيقيّدها وسيفْرغها من معانيها وأهدافها وتتحوَّل إلى عبارات فارغة، وكأنَّها تتحدَّث عن فترة من التَّاريخ سابقة لأمَّة من النَّاس ماضية.
فمثلاً: قوله تعالى عن الحاكميَّة: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44] خاصٌّ عند هؤلاء ببني إسرائيل، وهذا خطأ؛ لأنَّها تنطبق على كلّ إنسان أينما كان ومهْما كان، رفض حكم الله طائعًا مختارًا.
وقوله تعالى أيضًا: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [المائدة: 50]، فالجاهليَّة عند هؤلاء هي الحالة الَّتي كان عليها العرب قبل الإسلام، والمستوى المتدنِّي من الجهل والجهالة، وعدم العِلْم والثَّقافة والحضارة، إنَّ هذا الفهم يقزِّم الآية ويفرغها من معانيها؛ لأنَّها بهذا تتحدَّث عن أموات مضَوا في سالف الزَّمان، مع أنَّها صالحة لكلّ زمان، فالجاهليَّة هي كلّ حالة أو وضع أو تشريع أو نظام أو مجتمع أو مناهج أو توجيهات، يرفض أصحابها الاحتِكام فيها إلى شرع الله، ويقبلون أن يحكموا بغيره، فهذه هي الجاهليَّة في أيّ أناس أو أي زمان، وأهلها جاهلون مهْما بلغ رقيهم المادّي والعلمي والتكنولوجي والثقافي[9].
9- الشعور بأنَّ الآية موجهة له:
وعلى القارئ البصير للقرآن أن يُوقن أنَّه هو المقصود بالآية، وأنَّها تعنيه هو، وتخصُّه هو، وتُخاطبه هو، وتطالبه هو، وتحدّثه هو،.. فإذا قرأها فليفْتح لها أجهزة التلقّي والاستجابة ليلتزم بما فيها من توجيهات[10].
هذه كلِمات، وهذه توجيهات، استوقفتْني كثيرًا في حياتي مع القرآن، أردتُ بها إعلاء الهِمَم، وتصْحيح الطَّريق، وتذْكير الغافل، بحقّ هذا الكتاب، ليكون الشّعار لكلّ قارئ: "القرآن كتابي"، وهكذا يكون التلقّي للقرآن.
ــــــــــــــــ
[1] ذكره ابن كثير في مقدمة التفسير.
[2] معالم في الطريق.
[3] جند الله ثقافة وأخلاقًا (ص 81، 82).
[4] المصدر السابق (ص82).
[5] زاد المعاد لابن القيم (ج1 /ص340).
[6] تذكرة الدعاة للبهي الخولي (ص 307).
[7] نفس المصدر (ص 351).
[8] جند الله (71) بتصرف.
[9] مفاتيح للتعامل مع القرآن، د. صلاح الخالدي.
[10] مفاتيح للتعامل مع القرآن، د. صلاح الخالدي.