عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 2  ]
قديم 2010-04-05, 7:19 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
♦ سمع النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدْعو النَّاس للصَّدقة، لكي يُجهِّز سريَّة، فذهب إلى بيْتِه مسرعًا ثُمَّ عاد، ونثَر بين يدَي النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أربعة آلاف دينار، هي نِصْف مالِه، فدعا له النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ماله.
♦ قدَّم يومًا لجيوش الإسلام خمسَمائةِ فرسٍ، ومرَّة ألفًا وخمسمائة راحلة.
♦ باع يومًا أرضًا بأرْبعين ألف درهم، فقسمها في فقراء أقاربه، والمهاجرين وأمَّهات المؤمنين.
♦ في غزوة تَبُوك، حينما كان الحاجةُ للمال أكثرَ من الرجال، أنفقَ ابنُ عوف إنفاق مَن لا يخْشى الفقر.
♦ وتصدَّق بصدقةٍ عظيمة، حتَّى قال عمر بن الخطَّاب بعد أن رأى كثرةَ صدقتِه: "إنّي لا أرى عبدالرَّحمن إلاَّ مرتكبًا إثمًا، فما ترك لأهله شيئًا!".

وغمزه المنافقون ولَمزوه بالرِّياء، مِن كثرة ما جاء به إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 79].

كان دائمًا - رضي الله عنه - ما يتفقَّد أحْوال أمَّهات المؤمنين، ينهض بحوائجهنَّ، ويسعى في أمورهنَّ، ويحج معهنَّ إذا حججْن، أرسل يومًا مالاً وفيرًا لعائشة - رضي الله عنها - فقالتْ: سقى الله ابن عوف من سلْسبيل الجنة، سمعْتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((لا يَحنو عليْكنَّ بعْدي إلاَّ الصَّابرون))؛ رواه التّرمذي، وصحَّحه ابن حبَّان.

إخوة الإيمان:
ومع هذا المال وتلك الثَّروة، كان ابن عوف - رضِي الله عنْه - يَحمل بين جنبيْه نفسًا صغيرة مُتواضعة، لا تعرف الكِبْر ولا التَّعالي، حتَّى قيل: لوْ رآه غريبٌ لَم يعْرفه بين عبيده وخدمِه.

لقد كان - رضِي الله عنْه - مثالاً حقًّا للمؤْمِن الغنيِّ الزَّاهد.

يُطْعَنُ الفارُوق - رضِي الله عنه - فيجعل أمْر المسلمين بين ستَّة من الصَّحابة، والَّذين توفِّي رسولُ الله وهو عنهم راضٍ، وكان منهم عبدالرحمن بن عوف، فتنازَل - رضِي الله عنه - عن المنصب وزَهَد في الخلافة، ورضي أن تُجعَل في الخمسة الباقين.

كان - رضي الله عنه - صوَّامًا قوَّامًا، شجاعًا مقدامًا، لَم يتخلَّف عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - في غزوةٍ قطّ.

وكان من القلَّة الَّذين ثبتوا بين يدَي النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم أُحُد، فَهُتِمَ فمُه، وسَقَطَتْ ثَنيَّتاه، وخرج من هذه الغزوة وفيه بضعةٌ وعشرون جرحًا، بعضها عميق تدخل فيه يد الرَّجُل.

وأمَّره النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على جيش فيه أبو بكر وعمر، وسيَّره إلى دومة الجنْدل، ليؤدِّب القبائل التي كانتْ تُغير على قوافل المسلمين.

عباد الله:
ومع هذه الفضائل الكبرى يبقى لابن عوف وسام لا يعْدِله وسام، وتاجٌ تمتدُّ نحوَه الأعناق، وتهفو إليه (النفوس)، إنَّه إكرام الله تعالى له، حينما صلَّى خلفه إمام الأنبياء، وسيِّد الأوَّلين والآخرين - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذلك في غزوة تبوك، حينما خرج رسولنا إلى حاجته في السَّحَر، فأبطأ على الناس، فقدَّم الناسُ ابنَ عوف يصلِّي بهم، فأدْركَهم النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في الرَّكعة الثَّانية، فهمَّ ابنُ عوفٍ أن يرجع مأمومًا، فأشار إليْه النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنْ أتمَّ صلاتك، فأتَمَّها إمامًا، هذا الشَّرَف لَم يتقلَّدْه إلاَّ ابنُ عوف، ثُم الصدِّيق بعد ذلك في مرَض النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الَّذي مات فيه.

ومن فضائِل ابْنِ عوفٍ: مكانته في قلْب النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودِفَاعه عنْه في كثيرٍ من المواقف، حصل بين خالدِ بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف مشادَّةٌ كلاميَّة؛ بسبب أسرى جذيمة، فأسْمعَ كلٌّ منهما ما يؤْذي الآخر، فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال لخالد مبيِّنًا فضل عبدالرحمن بن عوف: ((دعُوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدٌ مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)).
أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم: ﴿ مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23].

بارك الله لي ولكُم في القُرآن، ونفعني وإيَّاكم بهدْي سيِّد المرسلين، أقول ما سمعتُم وأستغفر الله.


فيا عباد الله:
ومِن معالِم شخصيَّة ابن عوف: أنَّه كان واسعَ العلم، معدودًا في فُقهاء الصَّحابة - رضِي الله عنهم - وهو أحد النَّفَر القلائل، الَّذين كانوا يُفْتون في المدينة ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حي.

وقد حدَّثَتْنا دواوينُ السنَّة وكتب التَّاريخ أنَّ ابن عوف قد فصل في عدَّة حوادث أُعضلتْ على الصَّحابة، واحتارتْ فهومُهم فيها، فحينما احتار الفاروق في أمْر المجوس، جاءه العلْم والخبَر من الخبير عبدالرحمن بن عوف، فقال: أشهد أنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((سنُّوا فيهم سُنَّة أهل الكتاب))، فأخذ عمرُ الجزْية من مَجوس هجر، ولمَّا خرج عمرُ إلى الشَّام، جاءه الخبر وهو في الطَّريق أنَّ الطاعون قد حلَّ بالنَّاس، فأوقف الفاروق المسير، واستشار النَّاس في ذلك، فمنهم مَن رأى الذَّهاب والتوكُّل على الله، ومنهم مَن رأى الرُّجوع، فجاء ابن عوف وفصل في القضيَّة، بأنَّه سمع النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إذا سمعتُم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها، فلا تخرجوا فرارًا منه))، فرجع عمر بعد ذلك قافلاً إلى المدينة.

وحينما رأى عمر أيضًا جُرأةَ النَّاس على شُرْب الخمر، استشار الصَّحابة في زيادة الحدّ؛ لكي يرتدع الفسَقةُ عنها، فأشار عليْه عبدالرحمن بن عوف بثمانين جلدةً؛ لأنَّ أخفَّ الحدود ثمانون، فأخذ عمر برأيه، وعمل به الخلفاءُ بعده.

كان ابنُ عوف - رضي الله عنه - مُرْهَفَ الإحساس، كثير المحاسبة للنفس، تدمع عينُه إذا تذكَّر حال أمسِه ويومه، ويبكي كثيرًا إذا تذكَّر الحال التي كان عليها نبيُّه وحبيبه - صلَّى الله عليه وسلَّم.

اجتمع يومًا بعضُ أصحابه عنده على طعامٍ له، وما كاد الطَّعام يُوضع حتَّى بكى ابنُ عوف، فسألوه: ما يبكيك يا أبا محمَّد؟ فقال: "لقد مات رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما شَبِع هو وأهلُ بيتِه من خبز الشَّعير".

وفي آخِر حياته أوْصى بكثيرٍ من ماله، فأوْصى بخمسين ألفَ دينار صدقةً في سبيل الله، وأوْصى بألف فرس لجيوش الإسلام، وأعتق خلقًا كثيرًا من مَماليكِه، ولم ينسَ إخوانه أهْلَ بدْر، فأوْصى لهم من ماله، وكانوا مائة، فأُعْطيَ كلُّ واحدٍ منهم أربعمائة دينار.

ثمَّ بعد ذلك جاءَه أمر الله، الذي لا يخطئ أحدًا من البشر، فمرض - رضي الله عنه - ولازمته الأوجاع، فلزم بيته شهرًا، وكان في أيَّامه تلك كثيرَ الصَّوم والاستغفار، جيءَ له بإفطاره يومًا، وكان صائمًا، فلمَّا وقعتْ عينه على الطَّعام جال في خاطره شريطُ الذِّكْريات، فتذكَّر إخوانه المهاجرين الأوَّلين، والحال الَّتي ماتوا عليها، فَفَقَدَ شهية الطَّعام، وسَكَبتْ عينه دمعاتٍ حارَّات، وقال: "استُشْهِد مصعب بن عمير وهو خيرٌ منِّي، فكفِّن في بُرْدة، إن غَطَّتْ رأسَه بدتْ رِجْلاه، وإن غطَّتْ رجلَيْه بدا رأسُه، واستشهد حَمزةُ - وهو خير منِّي - فلم يُوجدْ له ما يُكفَّنُ فيه إلاَّ بردة، ثمَّ بُسط لنا من الدُّنيا ما بُسط، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا، وإنِّي لأخشى أن تكونَ قد عجِّلت لنا حسناتُنا"، ثمَّ أمر بالطَّعام فرفع.

وفي أيَّامه تلك عرضتْ عليه أمُّ المؤمنين عائشةُ - رضي الله عنْها - أن يُدْفَن في حجرتها إلى جوار الصدِّيق والفاروق، فاعتذر - رضِي الله عنْه - عن هذا التَّشريف العظيم؛ لأنَّه تذكَّر ميثاقه وعهْده مع أخيه عثمان بن مظعون، عندما توافَقَا وتعاهَدَا أيَّام حياة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيهما مات بعدَ الآخر أن يُدفن إلى جوار صاحبه، وما هي إلاَّ أيَّامٌ قلائل، حتَّى فاضتْ رُوحه الزكيَّة، ولقي ربَّه مؤمنًا صادقًا زاهدًا، بعد حياة مليئة بالعلم والتُّقى، والبذْل والإنفاق، وتأثَّر أهل المدينة برَحيلِه، وبكى عليه القريبُ والبعيدُ، والكبيرُ والصغيرُ، والجار والصديق.

وقف عليٌّ - رضي الله عنه - على جنازته قبل دفنه فقال: "اذهب يا ابن عوف، فقد أدركْتَ صفْوَها، وسبقت رنْقَها".
والرنْق: الكدر.

وفي البقيع ثُوِي جثمان ذاك الجواد الكريم، مع إخوانه الصَّحْب الكرام، رحل ابن عوف لكن اسمه ونفقاته ستبْقى محفورة في ذاكرة الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وستبقى الأمَّة تترضَّى عنْه.

اللهُمَّ صلِّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد


توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟