عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 1  ]
قديم 2010-04-02, 2:26 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,493

غير متواجد
 
افتراضي البحث عن العلاقات المفقودة
البحث عن العلاقات المفقودة
جمال المعاند







ألقى نظرةً فاحِصة على محتويات حقيبتِه قبل أن يُغادر شقَّته وهو يَهمّ بالذَّهاب إلى المطار، تأكَّد للمرَّة الأخيرة من حَمْلِه خرائط المعالم المهمَّة، وقاموسًا بلغته يترْجم لغة مقصده، وبعضًا من الكتُب يُزجي بها أوقات الانتِظار القسري، وتخفَّف من حَمل الثِّياب لسهولة الحصول عليْها في أيّ بقعة من العالم، وحلَّق خيالُه في هاتيك الأماكن مختصرًا المسافات والأزْمِنة.



كان ضمن زمْرة من المسافرين رتّب لهم مكتب رحلات رحلتهم لبلد من شرق آسيا، بما فيها مُرشد يتحدَّث بلغتهم، ويتمّ لهم إجراءات الدّخول، ويقودهم إلى أهمّ المعالم والأسواق والمطاعم.



منذُ لحظات الوصول إلى ساعات التجْوال أدْرك مفارقاتٍ عمَّا درج عليه في بلده، الألوان صارخة والنكهات مُختلفة المذاق، والبخور يتصاعَد في السَّماء، شَعْب سِمَتُه البساطة في ملْبسه ومأكله، إلاَّ قلَّة تتَّخذ النَّمط الأوربّي منهجًا.



تجوَّل في الأسواق، رأى حرفًا يمتهنُها النَّاس قد لا يصِل مردودُها الشَّهري إلى أجْر عامل أوربي يوميًّا، ولفت نظرَه غبطة أولئك وهم يَبيعون ويشترون بأثْمان بخسة، ومع ذلك تفترُّ ثغورهم عن ابتِسامة، استوقفتْه تلك اللقطة، إنَّها مقدرة على استِثْمار اللَّحظة، وقدرة عند الشَّرقيّين على تَحويلها إلى أمواج دافقة تغمر الإنسان كلّه، حتَّى ولو كانت آنيَّة يصعب الإمساك بها.



انعزل عن سربِه الذي رافقه من فرنسا، خالط أفواجًا من السّكَّان المحليّين، أكل طعامَهم ولبس لباسَهم ودَلَف إلى معابدِهم، إنَّه يبحث عن آليَّة استثمار اللَّحظة، ثمَّة شيء ما يتحكَّم بالسلوك فلا يبدر منهم تذمُّر أو سخط، احتار فيما يعْزو هذه السيطرة، إلى أمور درجوا عليْها منذ نعومة أظفارِهم من مثل القناعة، أم حكمة ربّوا عليها تقول: إنَّ جوهر المتع واحد، وأيًّا كان الأمر فالنَّتيجة نوعٌ من السَّيطرة على الانفِعال، فلا يتولَّد من أسباب متجدِّدة الحصول إلاَّ ما ندر، ومع كلِّ هذه الاستِنتاجات إلاَّ أنَّ الحقيقة بدَتْ له أنَّها أكبر من ذلك.



وفيما تلهَّى رفْقتُه بظواهر المُتَع، أبَى عقلُه إلاَّ الغوص بحثًا عن الحقيقة عارية، إنَّه على وشك الوصول لقاعدة يستخْدِمُها لطرْد القلق وإضاءة حنادس الكآبة، وهُما أكبر متربِّصين بالإنسان الغربي.



سرح خياله في آفاق الواقع يُقارن بين الإنسان الغربي والشَّرقي، حصر جملةً من نقاط الاتِّفاق والاختلاف، أخذ يُمعن الفِكْر في كلّ ذلك، فرجح عنده أنَّ الاعتِقاد أجْدر مسؤول عن ذلك كلّه؛ فالاعتِقاد هو مَن تُبْنى عليه التصوُّرات الذهنيَّة، وهي مَن تلِدُ السلوك.



فقرَّر البدءَ بِدراسة المعتقدات الشَّرقية لأهميَّتها حسب ما استنتجه، أظهر تنسُّكًا وتبتُّلاً في هاتيك المعابد، زيارات وأداء صلوات وقراءة طلاسم لا يفْقه منها شيئًا، كان على خِصام مع عقْله الَّذي أكَّد له أنَّ ههنا أصنامًا، وهناك في فرنسا أصنامًا، طلب من عقْله التريُّث قبل إصدار الأحكام، لعلَّ الكلِمات السحريَّة لتلك الطَّلاسم بعد جرعات منها تفي بالمطْلوب وتشرق في نفسه.



وأمام إلحاح عقلٍ غربي لا يُسلّم بسهولة، ويرغب بالفهْم لأدقِّ تفصيل، أخذ يقرأُ كلَّ ما حصل عليْه من كتب حملها هو أو رفاقُه في السفر، لكنَّها من الاقتِضاب ما لا تشفي غليلَه، استنْجد بالشَّبكة العنكبوتيَّة "الإنترنت" قرأ كلَّ ما كتب بلغتِه الفرنسيَّة، والإنكليزيَّة الَّتي يُتْقِنها عن معتقدات ذلك الشَّعب، وجمع النّقاط الَّتي أجْمعت المراجع على الاتِّفاق عليْها، وأطلَّتْ سجيَّته الأوربيَّة من قمقمِها، والَّتي لا يشبع نهمها ترْك احتمال قابل للهضم عقليًّا، بعد أن تختبره حواسّ التَّجارب.



أوشكتْ مدَّة إقامته على الانتِهاء، فقرَّر تأْجيل السَّفر شهرًا آخر، وارتَحل لنُزل رخيص الثَّمن، وأصبح من روَّاد المعابد لديْهِم وعمد إلى التَّطبيق الحرفي لنصوص تعاليمِهم، بعد أسابيعَ من الاعتِماد على الالتِزام التَّامّ وانتظار النَّتائج، أحسَّ أنَّه في وهمٍ يُراد منه السَّيطرة على العقل والجسد، وإنْ هي إلاَّ محاولات لا تحفل بالمنطق، وتجنح إلى التوهُّم لتفرضه واقعًا، حتَّى ولو لم تَمتلك من الحقيقة شيئًا يُذْكَر، حزم حقائبَه، وقَفل عائدًا لبلاده، بقناعةٍ مهْزوزة تقول: إنَّ الإنسان الشَّرقيَّ يُحاول السَّيطرة على الانفِعال بممارسات رياضيَّة بدنيَّة وعقليَّة لا أكثر ولا أقلّ، وإنَّ سعادة تلك الشّعوب هي ترقب مخدّر، يجعل الأزمات تمرّ بدون إحساس، وليستْ حقيقة ناجعة للتَّعامل مع ظروف تُمليها تقاطعات وتشابك المصالح.



بيْد أنَّه اقتنع بحقيقةٍ واحدة تحت ضبابيَّة هاتيك العلاقات، تقول: إنَّ ثمَّة علاقة بين الجسد والعقل تتخطَّى دائرة الإرشاد.



رحلته الشَّرق آسيويَّة أحدثت تغيُّرًا في طريقة تفكيره، فبعد أن كان يلهث خلف المُتَع الجسديَّة وهو الشَّابّ الثَّلاثيني، بات على قناعة أنَّ للعقل وظيفةً إلى جانب عمله المعتاد، تتمثَّل بعلاقة مع الجسد ترتقي من الإرْشاد إلى القياد.



انْزوى في خلواتٍ مع نفسِه يقلِّب الرَّأي، وتذكَّر أنَّ للشَّرق حضارات سادتْ وبادت، وأنَّ جلَّ التقدّم التقني المعاصر ما هو إلاَّ خبرات تراكميَّة لجهود عقلاء أفْذاذ عاشوا عبر مئات السنين الَّتي خلت.



تساءل بينه وبين نفسه، هل ثمَّة ثغرة سلوكيَّة لم تستثمر تقنيًّا في البحوث المعاصرة؟

على هذا الأساس أخذ ينقب عن ركاز الشَّرق المدفون في طيَّات النسيان، وفي منحى العلاقة بين الجسد والعقل، وأثناء رحلة بحثه عثَر على الإسلام كموروث شرْقي المولد والنَّشأة، لا يزال له حظوة في قلوب ربع سكَّان المعمورة.



وجد التّراث الإسلامي وافر البحوث متعدّد الكتابات، سواء له أو عليه، هنا تدخَّل الشَّيطان، لقد دخل طرفٌ ثانٍ يسمعه داخل نفسِه ولا يراه، وسوس مرَّات عدَّة، فما وجد من حجَّة أوْضح لثنْيِه عن عزمه إلاَّ أن قال له: لو كان الإسلام جديرًا بالإجابة على تساؤُلاتِك، لكان أحْرى أن يقْنع أبناءه، انظُر إليْهِم، إنَّهم يغرقون في مستنْقعات التخلُّف، وينزلقون في منحدرات الإحباط، ألا ترى لهاثَهم لتقليدك أنت وأبناء جنسك؟!



لم يكن الشَّيطان ذكيًّا لدرجة أن يصرفه بسهولة، فلِلغربي عقل لا يتلفِت لمعوّق في طريق بحثِه قبل أن يصل لقناعة تامَّة حول ما يفتِّش عنه، فهو يريد فكرةً وإن كانت خامًا، لمعت لمفكِّر عبقري، توضح العلاقة بين العقل والجسد، وليْس مِن شأْنِه البحث عن سقوط الحضارات، وحضارة الإسلام المرحلة التي سبقت وصول البشريَّة لكلّ هذا التقدُّم التقني، فمِن المرجَّح أنَّ ما يقلقه أقلقَ غيرَه في تلك الحضارة، فمضى في بحثِه لا يلوي على شيء، فيما ظنَّ شيطانُه أنَّ طاقة بحثِه توشك على النَّفاد، والحقيقة أنَّه أسقط من حساباتِه ملاحظة المسلمين، بعدما لمع في ذهنِه حقيقة قالها علماء الآثار تقول: كم من تُحفة تركها الأقْدمون هي آيةٌ في الذَّوق والجمال!

بعدما أُلْهم هذه المقولة قال في نفسه: ولِم يستحيل أن يتركوا معلومة لا تقلّ شأوًا؟



وانقضتْ مدَّة من عمره خرجت على معتادِه، فما أن ينهي أوقاتَ العمل الَّذي يقتات منْه حتَّى يبدأ بجمْع معلومات عبر ما يصل إليه من مراجع، كانت تلكم الأوقات سابقًا مجيرة تمامًا للَّهو، مرحلة بدا فيها غريبَ الأطوار لأقْرب مَن حوله، لكنَّه لَم يكترث وتابع بحثَه، وجد نفسَه دون قصْدٍ يضع جانبًا كلَّ ما حصَل عليه من معلومات عن الأدْيان والحضارات الأخرى، ويركِّز جهْدَه حول الإسلام، استهوتْ بداية الرّدود العقليَّة والتَّعليقات، انساق خلْف كتابات المستشرقين، وممَّا لفت انتباهه تبايُن مصادر النَّقل لحقيقة إسلاميَّة، ونقطة أخرى أنَّ جلَّ النَّقل لكتب شروح أو تاريخ تحمل بين سطورها إحالة لمصادر أساسيَّة، أيْقن أنَّ هذه الطَّريقة لا تصِل به إلى غايته المنشودة، فعزم على قراءة الإسلام من مصادرِه؛ لكن جلّ التّراث الإسلامي باللّغة العربيَّة، وما هو مترْجَم لا يسمن ولا يغني من جوع!



دفعتْه الحاجة للاتّصال بمسلمين يُتْقِنون لغته الفرنسيَّة، وتلقَّفتْه ألسن الدُّعاة وقلوبُهم، فكانت مفارقة أولى أنَّ رجال الدّين الإسلامي - كما كان يتصوَّر - يعيشون مثل باقي النَّاس: زوجة وأولاد، وليْسوا طبقة كهنوت بملامح خاصَّة، من ثمَّ التَّعاليم فهي واحدة للجميع، ولا استثناء لأحد، لكنَّه لم يقف عند المظاهر مرَّة أخرى.



فموضوع بحثِه العلاقة بين الجسد والعقل حصرًا، أعياه التَّعب فهو يلج عوالمَ لا عهْدَ له بها، وليست من اهتماماتِه، لكنَّه أصرَّ، يدفعه الصِّراع العقْلي في خبيئة نفسِه وصور الشَّرقيّين الَّذين يملكون القليلَ القليل من مُتَع الدُّنيا، ويعيشون حياتَهم بطولها وعرضها - كما يقال - رغم العوز، أكرهَ نفسه لتحمل مشقَّة البحث، ونمت مطالعاته ليكتشف بعدًا جديدًا، فالإسلام يدخل مضخَّة الدَّم كما يتصوَّرها طرفًا ثالثًا، القلب.



القلب مكْمن العواطف، والَّذي يخفق بشدَّة لما يتخطَّى المعتاد، ربط من الإسلام ما كان يظنُّه حقيقة، عند هذه النقطة، كاد يصيح على مبدأ أرخميدس العالم الفزيائي: "وجدتُها وجدتها"، إنَّه الباب الحقيقي لارتباط الجسد بالعقْل في برزخ العواطف.



مِن ثمَّ أدرك أيضًا أنَّ القَلْب هو مركز التعقُّل، وما الدِّماغ إلاَّ مساعد، والإسلام تبدأ تعاليمُه من تصْديق القلب لتفيضَ على الجوارح، والبعد الأُخروي في الإسلام يدفع المؤمنَ للرِّضا بقناعة، وما من مغلوب يوقن بيوم الحساب إلاَّ وتطمئنّ نفسُه بعوض، هنا قال له عقله: بهذا لا جدال، وليْس بطلاسم وأصنام.



بعد عامَين انقضت وهو بين مطالعة السّطور، وبين ما يفعله المسلمون بما تُمليه الصدور، أيقن أنَّ الإسلام دينٌ سماوي، وأنَّه تعاليم إلهيَّة ليست من صنع البشر، وبِما أنَّه يُؤمن أنَّ له خالقًا، فهو وحْده أعلم بما يصلح لِمَن خَلَق، عندها قرَّر اعتِناق الإسلام منهج حياة.


توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟