فمن الأحاديث الدَّالَّة على فضل الأخوَّة في الله والحب لله:
ما رواه مسلم عن أبِي هريرة - رضِي الله عنه - عنِ النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ رجلا زار أخًا له في الله، فأرصد الله له ملَكًا، فقال: أين تُريد؟ قال: أُريد أن أَزور أخِي فلانًا، فقال: لحاجة لك عنده؟ قال: لا، قال: لقرابةٍ بيْنك وبينه؟ قال: لا، قال: فبِنعمة له عندك؟ قال: لا، قال: فبم؟ قال: أحبُّه في الله، قال: فإنَّ الله أرسلني إليْك يُخبرك بأنَّه يحبُّك لحبِّك إيَّاه، وقد أوجب لك الجنَّة.
وعن أنس بن مالك أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليْه ممَّا سواهما، وأن يكره الرَّجُل أن يعود إلى الكفْر كما يكره أن يقذف في النَّار، وأن يحبَّ العبد لا يحبُّ إلاَّ لله - أو قال: في الله)).
ورحِم الله مَن قال:
اسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الإِخْوَانِ إِنَّهُمُ خَيْرٌ لِكَانِزِهِمْ كَنْزًا مِنَ الذَّهَبِ
كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ لَوْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ وَجَدْتَهُ لَكَ خَيْرًا مِنْ أَخِي النَّسَبِ
وكتب الأحنف بن قيس مع رجُل إلى صديق له: "أمَّا بعد، فإذا قدِم عليك أخ لك موافق فليكن منك مكان سمعِك وبصرِك؛ فإنَّ الأخَ الموافق أفضلُ من الولد المخالف، ألا تسمع إلى قوْل الله - عزَّ وجلَّ - لنوح في شأن ابنِه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، يقول: ليس من أهْل ملَّتك، فانظر إلى هذا وأشباهه فاجعلْهم كنوزك وذخائرك وأصحابك في سفرك وحضرك، فإنَّك إن تقربهم تقرَّبوا منك، وإن تباعدهم يستغْنوا بالله - عزَّ وجلَّ - والسَّلام".
وقال الشاعر:
عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الثِّقَاتِ فَإِنَّهُمْ قَلِيلٌ فَصِلْهُمْ دُونَ مَنْ كُنْتَ تَصْحَبُ
وَنَفْسَكَ أَكْرِمْهَا وَصُنْهَا فَإِنَّهَا مَتَى مَا تُجَالِسْ سِفْلَةَ النَّاسِ تَغْضَبُ
وقال عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -: "عليْك بإخوان الصّدق فعش في أكنافِهم؛ فإنَّهم زَين في الرخاء وعدَّة في البلاء".
عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ أفضل الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله)).
وعنِ ابن عمر قال: "لقد رأيتُنا وما الرَّجل المسلم بأحقَّ بديناره ودرهمِه من أخيه المسلم".
قال رجل لداود الطَّائي: أوْصِني، قال: "اصحب أهل التقْوى؛ فإنَّهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤونة وأكثرهم لك معونة".
وعن أبي عمْرٍو العوفي قال: كان يقال: "اصحب من إن صحِبْتَه زانك، وإن خدمتَه صانك، وإن أصابتْك خصاصة مَانَك، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن رأى منك سقطةً سدَّها، وإن قلت صدَّق قولك، وإن صُلْت سدَّد صولك".
وزاد غيره: "ولا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليْك منه الطَّرائق، ومَن إن سألتَه أعطاك، وإن سكتَّ ابتدأك، وإن نازعتَه يَذِلّ لك".
وقال عبدالله بن الحسن: "أربع من سعادة المرْء: أن تكون زوجتُه صالحة، وأن يكون ولده أبرارًا، وأن تكون معيشتُه في بلده، وإخوانه صالحين".
وقال الحسن: "المؤمن مرآة أخيه، إن رأى فيه ما لا يعجبه سدَّده وقوَّمه، وحاطه وحفِظه في السّرّ والعلانية، إنَّ لك من خليلِك نصيبًا، وإنَّ لك نصيبًا من ذكر مَن أحببت، فثِقوا بالأصحاب والإخوان والمجالس".
وأختم هذا المبحث بما قاله د. البوطي في كتابه "فقه السيرة" مبيِّنًا أهمّيَّة الأخوَّة بقوله:
"أوَّلاً: إنَّ أيَّ دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلاَّ على أساس من وحْدة الأمة وتسانُدها، ولا يمكن لكلّ من الوحدة والتسانُد أن يتمَّ بغير عامل التَّآخي والمحبَّة المتبادلة، فكلّ جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودَّة والتآخي الحقيقيَّة لا يُمكن أن تتَّحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتّحاد حقيقة قائمة في الأمَّة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألَّف منها دولة.
على أنَّ التَّآخي أيضًا لا بدَّ أن يكون مسبوقًا بعقيدة يتمّ اللقاء عليها والإيمان بها.
ومن أجل ذلك؛ فقد جعل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أساس الأخوَّة التي جمع عليها أفئدة أصحابه: العقيدة الإسلاميَّة التي جاءهم بها من عند الله تعالى، والَّتي تضع النَّاس كلهم في مصافّ العبودية الخالصة لله تعالى، دون الاعتبار لأيّ فارق إلاَّ فارق التقوى والعمل الصَّالح؛ إذ ليس من المتوقَّع أن يسود الإخاء والتَّعاون والإيثار بين أناس شتَّتتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكًا لأنانيَّته وأثرته وأهوائه.
ثانيًا: إنَّ المجتمع - أيّ مجتمع - إنَّما يختلف عن مجموعةٍ ما من النَّاس منتثرة مفكَّكة، بشيء واحد، هو قيام مبدأ التَّناصُر والتَّعاون فيما بين أشخاص هذا المجتمع، وفي كلّ نواحي الحياة ومقوّماتها، فإن كان هذا التَّعاون والتَّناصُر قائمًا، طبق نظام العدل والمساواة فيما بينهم، فذلِك هو المجتمع العادل السَّليم، وإن كان ذلك قائمًا على الحيف والظلم، فذلك هو المجتمع الظَّالم المنحرف، وإذا كان المجتمع السليم إنَّما يقوم على أساس من العدالة في الاستِفادة من أسباب الحياة والرِّزْق، فما الَّذي يضمن سلامة هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه؟
إنَّ الضَّمانة الطبيعيَّة والفطريَّة الأولى لذلك، إنَّما هي التَّآخي والتَّواد.
ثالثًا: المعنى التفسيري الذي صاحب شعار التآخي:
لَم يكن ما أقامه الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين أصحابه من مبدأ التَّآخي مجرَّد شعار في كلِمة أجراها على ألسِنَتهم، وإنَّما كان حقيقة عمليَّة تتَّصل بواقع الحياة وبكلّ أوجُه العلاقات القائمة بين المهاجرين والأنصار؛ ولذلك جعل النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من هذه الأخوَّة مسؤوليَّة حقيقيَّة تشيع بين هؤلاء الإخوة، وكانت هذه المسؤوليَّة تؤدَّى فيما بينهم على خير وجه، وحسبُنا دليلاً على ذلك ما قام به سعد بن الرَّبيع الذي كان قد آخى الرَّسول بيْنه وبين عبدالرَّحمن بن عوف، إذ عرض على عبدالرحمن بن عوف أن يشركه في بيْتِه وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكنَّ عبدالرَّحمن بن عوف شكرَه وطلب منه أن يُرْشِده إلى سوق المدينة ليشتغِل فيها، وَلَم يكُن سعد بن الربيع منفردًا عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه كما قد يظنّ، بل كان هذا شأْن عامَّة الصَّحابة في علاقتهم وتعاوُنِهم مع بعض، خصوصًا بعد الهجرة، وبعد أن آخى النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما بينهم.
ولذلك أيضًا جعل الله - سبحانه وتعالى - حقَّ الميراث منوطًا بهذا التآخي، دون حقوق القرابة والرَّحِم، فقد كان من حكمة هذا التَّشريع أن تتجلَّى الأخوَّة الإسلاميَّة حقيقة محسوسة في أذهان المسلمين، وأن يعلموا أنَّ ما بين المسلمين من التَّآخي والتَّحابّ ليس شعارًا وكلامًا مجرَّدين، وإنَّما هي حقيقة قائمة ذات نتائج اجتِماعيَّة محسوسة، تكون أهمَّ أسس نظام العدالة الاجتِماعيَّة.