علماء ومفكرون عاصرتهم (1)
فليعذرني المئات من العلماء والدعاة والمربين ممن عرفتهم، وأدين لهم بالفضل في جوانب استفدتها منهم، والتمستها من شخصيتهم، لأني لم أذكرهم لا لكثرتهم، ولكني هنا أذكر من عاصرتهم، أي من جالستهم كثيراً، وسافرت معهم، وعرفت كثيراً من أمور حياتهم، وحصلت لي مواقف خاصة معهم تستحق الإشادة، والتحليل السليم!
وأول هؤلاء وفي صدارتهم سماحة العلامة المحدث الشيخ: عبدالقادر الأرناؤوط -رحمه الله-.
فهو صديق والدي الوفي، ورفيقه في دربه، وشيخي الأول.
حضرت خطبه قرابة خمس سنوات، وقرأت كل تحقيقاته المباركة، ودرست على يديه في المصطلح أول الأمر، ثم قراءة عامة في أحاديث مختصر شعب الإيمان، وفصولاً كثيرة من جامع الأصول.
وهو عالم متمكن في علمه، زاهد في معيشته، ورع في تصرفاته، مؤثِّر في إلقائه، عفٌّ في كلماته، وسطيٌ في أحكامه.
فهو أول من علمني مصطلح الحديث، وقرَّبني من كتب الحديث، وهو أول من لفت انتباهي وشدني لأسلوبه الخطابي العجيب، ما بين رفع صوت وخفض، وما بين استرسال وصمت.
وكانت لقاءاته الدورية في بيتنا مشهودة، وإهداءاته المستمرة لتحقيقاته موضع اعتزاز وفخر لي أولاً ولكل عائلتي.
وبموته -رحمه الله- خسر العالم الإسلامي قامة نادرة لها الفضل في إخراج كثرة كاثرة من الكتب العلمية المهمة المحققة التي شهدته يحققها -رحمه الله- ليلاً ونهاراً، وسمعت منه مراراً أنه كان يكتفي بكوب الحليب والخبز صباحاً لئلا يشغله شيء عن التحقيق لآخر النهار!!
وكان من توفيق الله العظيم له، أن وفقه لاختيار أهم الكتب المفيدة والعظيمة، وهذا عندي سر رباني!
وله قصة طريفة مع سماحة العلامة عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- عندما كان نائباً لرئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، حيث كان إلقاء المواعظ في الحرم النبوي بعد صلاة الظهر لا يتطلب كبير عناء!
فقام الشيخ الأرناؤوط بعد صلاة الظهر، وذكر حديثاً شريفاً مع شرحه مختصراً كعادته في المواعظ العامة.
وبعد فراغه طلبه الشيخ عبدالعزيز بن باز وأبلغه أن الحديث الذي ذكره ضعيف، وكان لا يعرفه آنذاك، فأخبره الشيخ الأرناؤوط: أن الحديث حسن، وله شواهد وطرق كثيرة، فطلبها منه الشيخ بن باز ، وهذا ما حصل، وصار بينهما مودة وثقة كبيرة، وكان يعود إليه الشيخ بن باز في التخريج والتوثيق.
كان شيخنا الأرناؤوط يحضر خطب الجمعة مبكراً ويكثر من الأذكار، ثم يصعد المنبر فيروي حديثاً بسند مختصر مع إثبات رواته ومن صححه، وبعد ذلك يرويه من حفظه ويشرحه شرحاً مفصلاً محرراً، يجمع بين أسلوب الوعظ والإقناع.
وكثيراً ما كان يُطفئ الكهرباء في النهار، فكان صوته وطريقة أدائه هو التيار الحيوي الحقيقي الذي يشدُّ الناس، وهو والله من أميز الخطباء الذين عرفتهم وسمعت لهم.
وهو من أجلِّ علماء هذا العصر، ممن جمع بين العلم والمعاصرة، فهو لم يخض ما خاضه بعض المنتسبين في السعودية من النقائص أو الازدراء لأصحاب المذاهب الأخرى، كما لم ينح ما نحى إليه بعض تلاميذ العلامة الألباني من الوقيعة بينه وبين بعض العلماء.
لقد كان حكيماً رزيناً وسطياً مفتخراً بمنهج أهل السنة، وطريقة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ولكن دون ضجيج أو تسبب فتنة!
وهو أول من وضعني على خط الوعي العلمي الصحيح.
وقد أكرمني المولى جل جلاله باستخراج الفوائد التربوية من (جامع الأصول) الذي حققه شيخنا الأرناؤوط، بعد قراءتي المتأنية والطويلة له، وأسميته (بدائع الفصول من جامع الأصول)، وأجره بإذن الله لسماحة شيخنا العلامة المحدث: عبدالقادر الأرناؤوط، والذي أهديته كتابي (أمير الأنام)، ومما قلته في الإهداء:
إلى شيخنا الجليل وأستاذنا القدوة
الصالح المحدث الكبير ..
عبدالقادر الأرناؤوط "رحمه الله"
الذي تخلَّق بأخلاق العلماء، وكان معلماً في توحيد الكلمة.
رفع الله قدره في عليين، وجمعنا به مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين،،،
تلميذكم
علي