الحس الغنائي والعسكري في المتوسطة
ربما يكون بيني وبين المفكر العراقي الكبير (علي الوردي) تشابه إلى حد بعيد!
فهو عندما حفظ القرآن فرح والده بهذا الخبر فرحاً كبيراً، وأقيمت له (زفَّة) من الكُتَّاب إلى البيت!
وأنا عندما أخبرت والدي بإتمامي حفظ كتاب الله ، دعا بعض الأقارب في حفلة خاصة!
وعندما وصل (الوردي) إلى المتوسطة اضطر إلى لباس البنطال والقميص والطاقية، ولم يكن هذا الزي مريحاً له لأنه كان يميل إلى اللباس العفوي وما اعتاد عليه من الجلابية والقبعة الخضراء!
وأنا كذلك ما كنت أميل إلى هذه الملابس ذات اللون الزيتي الغامق الذي لا تفاؤل فيه ولا معه!
درست المتوسطة في دمشق وتحديداً في منطقة (المزَّة) وكان اسمها (عز الدين التنوخي) !
وأذكر أن لهذا الرجل (عز الدين التنوخي) فضل عليَّ كبير لنا أنساه طول حياتي!
وذلك أني في المرحلة الثانوية كنت مدمناً على قراءة كتب الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-، وكنت أتابع مع أهلي برنامجه الأشهر (على مائدة الإفطار)، وأعجب بأسلوبه الجميل، وعفويته، ولغته الشامية التي أميل إليها لأني درست فيها!
لكني لم أكن أتوقع أنه أديب من الطراز الأول، وكاتب مبدع ساحر في البلاغة و(رهيب) في التأثير!
نعم لأن برنامجه التلفزيوني لم يكن يفصح كثيراً عن مواهبه.
وذات يوم وأنا أتجول في مكتبة البيت العامة، وجدت كتاباً صغيراً عنوانه (القضاء في الإسلام) للشيخ علي الطنطاوي، وأذكر أني مررت أكثر من مرَّة عليه، ولكني لم أمِل لتصفحه لأن العنوان غير مغرٍ لشاب في المتوسطة!
أخذت الكتاب وقرأت أوله ، وإذ بالشيخ يذكر في هامش الصفحة الأولى أن أصل المكتوب محاضرة له كانت في إحدى مواسم الحج!
فتعجبت وقلت في نفسي: ما علاقة هذا الموضوع بالحج، وما الجديد فيه؟
ومع أول سطور الكتاب أسرني الشيخ ببراعة أسلوبه، وقوة بيانه، وجاذبيته التي تطربك وتسرق مشاعرك في آن واحد.
لقد حفظت المقدمة تماماً بحروفها، لأني لأول مرة أطرب لهذا الأسلوب الرائع، والذي كان فاتحة الشهية لقراءة كل كتبه بعدئذ.
أعود لاسم مدرستنا في المتوسطة (عز الدين التنوخي) وصاحبها.
بنهاية المرحلة الثانوية كنت قد أتممت بتعمق ما كتب الشيخ الطنطاوي وخاصة ذكرياته التي أثَّرت فيَّ كثيراً.
وعزمت على زيارة داره إلى أن حان القدر وأنا في أول المرحلة الجامعية، وقد عرفت أنه يسكن في عمارة (التأمينات الاجتماعية)، في جدة، في نهاية (شارع باخشب).
وصلت إلى العمارة التي دلني عليها أحد الأصدقاء بعد صلاة الظهر!
وهل يا ترى بعد الظهر يزور أحدٌ أحداً بلا موعد؟
إنه حب الشيخ وكفى!
العمارة كبيرة، وبدأت أسأل حتى هديت لرقم المدخل والشقة.
طرقت الباب، فردَّت علي (شغّالة أندونيسية)، فقلت لها: هل الشيخ علي الطنطاوي موجود، قالت: نعم، فقلت: وهل يمكن أن أسلِّم عليه فقط!
نعم كان هذا هو كل همِّي ورجائي ، ودعوت الله بعد صلاة الظهر أن ييسر لقاءه، فقد حاولت كثيراً الوصول إليه، وفي مخيلتي عشرات القصص، المدججة بالمواقف ضد المستعمرين، وفي ساحات القضاء، وفي مراتع الصبا، بل وأمام التلفاز، إضافة إلى الصور المعبِّرة والمشوقة والآسرة في نهاية ذكرياته.
وما إن قالت لي الخادمة: تفضَّل، وإذ بالفرحة تدب في كل جوانحي!
دخلت أول غرفة على اليمين، وإذ بالشيخ الوقور الحبيب إلى قلبي علي الطنطاوي جالس على كرسيه، يرتدي (بشتاً) بنياً، وهو حاسر الرأس.
سلَّم عليَّ، وصمتُّ من هول الموقف!
ثم سألني الشيخ متعجباً من الدخول والزيارة هذا الوقت: هل لديك أمر طارئ يا ولدي؟
فقلت له: لا يا شيخ ، إنما أردت زيارتك! فقال: ولكني لا أستقبل هذا الوقت، إنما بعد العشاء فقط ، ولك أن ترتب مع زوج ابنتي السيد: محمد نادر.
شكرت الشيخ على هذا الأمر ، ووعدته بأن أرتب معه الموعد بعد اتصالي بداره العامرة التي يملكها (دار المنارة) الموزعة لكتب الشيخ.
ولكني أخبرته على وجه السرعة، عن دافع الشوق الذي دعاني لزيارته دون أن أشعر بالوقت الذي أتيت فيه، وهو حبي له، وقراءتي لكتبه، وخاصة صوره التي ذكرتني بالشام عندما كنت طالباً فيها!
هنا انتفض الشيخ، وقال: هل درست في الشام؟
قلت له: نعم، قال: وأين درست؟
قلت: الابتدائية في (ابن زُهر) والمتوسطة في (عز الدين التنوخي).
ففرح كثيراً، وقال: (عز الدين التنوخي)؟!
وأخذ يسرد لي من هو عز الدين التنوخي ، وحياة هذا الرجل العظيم.
ولما فَرغ، قال للخادمة: أحضري لنا طعاماً وضيافة!
وأكرمني بالضيافة، فحدثني عن بعض كتبه، فأجبته بمعرفتها وحفظ دقائقها وتفاصيلها.
فدهش من إجاباتي، واستنباطاتي، وتأملاتي ، بل وحكايتي مع كتبه قبل النوم منذ المتوسطة إلى الثانوية.
وبينما هو في سروره ودهشته ، وقد أخذت قرابة الساعة!
دخل علينا الأستاذ: محمد نادر حتاحت ، فحدثه الشيخ عني، وعن دراستي، واهتمامي بكتبه، وما جرى بيني وبينه خلال تلك الساعة، وعبر عن اندهاشه بمتابعتي وتأملاتي في ما كتب، ثم قال للسيد محمد: للأخ علي أن يأتي في أي وقت!
ومن بعدها لازمت داره كل أسبوع من يوم الثلاثاء بعد صلاة المعشاء مباشرة -رحمه الله-.
أعود إلى مدرسة (عز الدين التنوخي).
لم تكن المدرسة مختلطة كما في الابتدائي ولا الثانوي كذلك، وهذا من عجيب الدراسة في سوريا، فأول مراحل الدراسة (الابتدائي) مختلطة، والأخيرة (الجامعية) مختلطة، وما بينهما كل حزب بما لديهم فرحون!
لم يكن من شيء مثير تلك المرحلة سوى ثلاث أمور.
الأول: أنه لم تكن هناك أي مادة للدين، سوى مادة عامة ليس لها مدرس مختص، إنما في كل مرحلة يدرسها أي شخص!
وهي مادة عامة في الأخلاق والقيم الكلية.
الثاني: أننا كنا ندرس مادة التربية العسكرية، وفيها تدريب عملي عسكري، يزداد ضراوة حيناً، ويخف حيناً آخر، إضافة إلى دراسة نظرية للأسس والقواعد والمفاهيم العسكرية العامة!
الثالث: دراسة التربية الموسيقية، من خلال الدرج الموسيقي، والتدريب على المقامات والألحان الصوتية، وأداء كل طالب مقطعاً صوتياً غنائياً لإحدى المغنين أو المغنيات المشتهرين تلك الفترة (فيروز، عبدالحليم، ميَّادة الحناوي...)، ويقوم الطلبة في الفصل بتقويم صوته، ومدى تطابقه مع النغم والدرج الموسيقي.
وعندما كان يأتي الدور عليَّ للغناء، كنت أقول للأستاذ: أنا سعودي!!!
وقد أخبرت والدي برفضي لهذا الطلب، فأتى إلى المدرسة وأقنع الإدارة بأن حضوري إن كان ملزماً، إلا أنني سأمتنع عن الغناء والأداء لعدم قناعتي، وأكتفي باختياري في معرفة الدرج وطبقات الصوت واللحن والنغم !!