عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 5  ]
قديم 2010-03-13, 5:12 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي










لن أنساك يا أبي



دعوني هذه المرة أبدأ من النهاية!


في يوم العزاء بوفاة والدي -رحمه الله-، زارنا عامل مصري للتعزية، فدخل باكياً، وخرج باكياً
وهو يقول: هو في زيك يا شيخ حمزة، الله يرحمك. وصدق والله!

لقد كان من عجائب أبي -رحمه الله- عندما كان قنصلاً سعودياً في مدينة السويس بمصر، يزور المحلات،
ويفرح إذا وجد عاملاً يُسمع الناس القرآن وخاصة الشيخ سعد الغامدي والشيخ أحمد العجمي،
حيث كانت أشرطتهما متوفرة إلى أن جاء بعدهما كثير من القراء والحمد لله.

ثم يحرص أن يتعامل معه بالبيع والشراء، فإذا وجده أميناً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى،
وتفرس به غير مرة، يدعوه لزيارته في المكتب، ويعرض له تأشيرة العمل في السعودية!!
وكان هذا العامل المصري الضعيف بركة هذه الطريقة الحمزاوية العجيبة.


وأتذكر أنني زرت سوريا قبل ثلاث سنين، فتحدثت مع شاب صالح من منطقة الشمال،
وأخبرته أن والدي كان فترة من الفترات قنصلاً في سوريا، فدار الحديث بيننا،
ثم قال: كان هناك رجل سعودي صالح، خدمنا خدمة عظيمة ندعو له بسببها إلى يومنا هذا.
حيث مكننا من تأشيرة السفر للسعودية بعد محنة مريرة، وبلاء عظيم، ولم يخدمنا رغم كل علاقاتنا أحد
إلا هو بعد فضل الله، ثم قال: وكان هذا الشيخ والقنصل الوقور في عام 1980م،
والتي هي فترة أبي، فلما ذكرت وصفه عجب من ذلك إذ كيف ينساه؟!
لقد كان أبي عالم وحده!


اسألوا عنه الجيران والأصحاب والأقارب وكل من سمع عنه، هل أحد منهم ذكر موقفاً عنه لا يرضي أو مظلمة لا قدر الله؟!
ثم اسألوا بم كانوا يصفونه ويدلوا الناس عليه؟


إنه الشيخ حمزة،
الصامت، الهادئ، المتواضع، الجامع للخير، الرزين، العف اللسان، النظيف اليد،
المتدين، صاحب الصف الأول، المحب لأقربائه، المؤدب في كلماته، الرباني في سمعته.
كان ذواقاً نظيفاً أنيقاً في مقابل التواضع الجم!
نعم إنها معادلة صعبة!
يحب أن يلبس الجميل والأبيض النظيف، لا يحب الأوراق ولا المحافظ العريضة في جيبه،
لا يحب أن يرى منديلاً أو قصاصة مرمية في غرفة أو سيارة. يحب الزرع والزهور، يحب المواعيد والتقيد بها،
يحب الترتيب والنظام، يحب السماع والإنصات، يحب الصالحين جداً ويقربهم، يحب التفاؤل وإحسان الظن،
يحب الخبر الجميل والرفقة الطيبة، يحب القراءة والقرآن.

كنت قريباً من أبي فترات العمر الأولى وفتراته الأخيرة، ولكنه غاب فترات مختلفة بحكم عمله فترة المراهقة وبعد الجامعة،
كنت أفتخر به كثيراً، ولكن غيابه من أجلنا وإسعاده لأسرته ترك فراغاً كبيراً واضحاً!


نعم كلماته ومواعظه كانت قصيرة، ولكن مواقف حياته كانت بليغة.


في الطفولة كان يحكي لي كل يوم قصة قبل النوم، أتذكر والله وأنا بعد في بداية
المرحلة الابتدائية طريقة إلقائه لها، وتفاصيل حديثها.
يا الله.. كل يوم قبل النوم قصة! نعم، لقد أشبعنا عاطفياً وحبب إلينا القيم عملياً.

وكانت الصلاة شغله الشاغل، يأخذنا إليها ونحن في سوريا فترة الشتاء القارص على أقدامنا
نخوض الثلج، أو بالسيارة إن لم نستطع المشي.
ولم تكن مساجد سوريا تحي صلاة التهجد في رمضان، فكان يصفني وأخي الأصغر عبداللطيف
بجواره في البيت ويصلي بنا ومن خلفنا بقية الأهل بقراءة طويلة خاشعة.
لم تكن أحاديث السياسة والمناصب ومجالس الكبراء تمنعه أو تعيقه عن إبداء موقفه من ضرورة المحافظة
على الصلاة جماعة، وإحياء الليل بالقرآن، وتقريب العلماء الثقات وتكريمهم.


فتح الباب على مصراعيه لأولي العلم الثقات، حتى أحبوه وأحبهم، وازدانت مكتبته
بمؤلفاتهم القيمة وتحقيقاتهم النفيسة، بل حتى مخطوطاتهم النادرة.

كان أباً بمعنى الكلمة. لا يفكر في نفسه، بل في مستقبل أولاده.
لا أتذكر أنه اشترى سيارة لمثل منصبه أحسبها جيدة، بل كانت كلها متواضعة.


يجمع الريال على الريال ليبني لأولاده مسكناً جامعاً يؤويهم، ويساندهم، في مشوار حياتهم الزوجية،
فقد تفضل على الجميع، ولم يكن على طريقة الآباء الذين يقولون: ربينا والباقي عليكم!

عرض له أثناء تواجده في مصر منصب عال، وكان من مميزات المنصب قصر كبير، وخدم،
وسيارة مرسيدس خاصة، وثلاث سيارات للعائلة، وحرس، وطاهي للطعام، وآخرون للنظافة وجمال الحديقة،
إضافة إلى علو الراتب وعلو المكانة. فزهد بهذا كله، ورمى به عرض الحائط، وسكن لوحده أربع سنين يطبخ بنفسه،
وينظف ملابسه بنفسه، ويكنس بيته بنفسه، وعاش لوحده!
فسألته عن سر ذلك، وزهده بالمنصب الذي جاء إليه وهو أهل له،
فقال: ما وراء هذه المناصب والزخارف إلا وسخ الدنيا!!
وكأنه يشير إلى أن من كان في هذا المنصب لا بد أن يستقبل بعض الوفود رجالاً ونساءً!
فأدركت ما كان يقصد، وتمتمت له مازحاً: إن هذه اللقاءات نادرة وعابرة.
فقال: ولكن أثرها غير عابر!
وأنا هنا أتحكم في وقت نومي وأكلي وحركتي وهي بكنوز الدنيا!

وحدث ذات يوم أنني أخبرته في المسجد عن قبولي في الجامعة في الكلية التي سعيت لها من أجل
اهتمامي بالإعجاز العلمي وهي كلية العلوم،
ففرح وبارك لي الخبر ودعا لي في المسجد بعد صلاة العصر، فقلت له مازحاً: ومكافآة الكلية 800 ريال،
فنظر إلي وقال: لا نتحدث يا ابني في بيت الله عن الدنيا!!

وعندما أراد أن يشتري لي سيارة جديدة عند دخولي في الجامعة مازحني هو هذه المرة
فقال: أتدري عندما سمعنا في القرية عن شيء اسمه سيارة ماذا عملنا لنراها؟
قلت: ماذا؟،
قال: حملنا الأعلاف على ظهورنا لنستقبلها ونقدم لها واجب الضيافة!!
هكذا كانت طيبته وهكذا طابت أيامنا معه.


مرض أبي -رحمه الله- بالسرطان، وبقي في المستشفى أكثر من أسبوعين، وفي يوم الجمعة الأخير طلب
أمراً عجيباً رفضه الأطباء، واختلف عليه إخواني لفرط محبتهم وخوفهم عليه، ألا وهي رغبته الذهاب للبيت!
أوصلناه للمنزل براً به وهو لا يكاد يتحرك،

طلبنا في غربته وجمعنا حوله، وقدَّم وصيته،
فقال بعض إخوتي: أطال الله عمرك، لا تفكر بهذا.
فقلت حينها: دعوه يقول ما يريد ولن يكتب إلا ما أراده الله. فرح بتسليم الوصية، وتوزيع الأوراق وهو في غاية الألم والتعب،
ثم طلب أمراً يفطِّر القلب، ألا وهو زيارة غرف البيت التي كنا ننام فيها، فمر عليها غرفة غرفة ونظر إلى زواياها،
ونحن نتأمل في هذا المشهد المحزن.
ثم ذهب إلى غرفته التي كان يقرأ فيها القرآن وارتاح قليلاً، إلى أن عدنا به إلى المستشفى.
وكانت هذه زيارته الأخيرة لدار الدنيا!

اشتد ألمه وهو بالمستشفى التخصصي بالرياض، ومكثنا قرابة الأسبوعين هناك، وسبحان من جمع القلوب على المحبة،
لقد غاب وعيه تماماً في آخر يومين، ولم يعد يحس أو يدري بمن حوله، وكانت نفس أمي مطمئنة محتسبة طيلة بقائنا
في المستشفى مع دعائها له وهي في جدة. لكن أمراً غريباً وشعوراً فياضاً احتواها فطلبت زيارته،
ووصلت إلينا عصراً، فدخلت عليه وسلمت، ووضعت يدها على يده فنظر إليها متبسماً،
وهذا والله من عجائب رحمة الله وعظيم قدرته. وغادرت يومها راضية داعية.
وكأنها لحظات الوداع، ونظرات الفراق، أتت إليه بدافع فطري غريب قبل وفاته بأقل من ليلة!

وقبيل عصر اليوم التالي وأنا أقرأ عليه سورة يس، جاء الطبيب وكشف عليه، وأعطاه جرعة من دواء،
وبعد دقيقة قال أخي محمد: كأنه عندما جاء الطبيب كانت عينه ترمش، فقلت: ناده إن شئت، وناداه،
فلما نظر الطبيب، قال: سبحان الله توفي قبل دقيقة!

وهكذا غاب عنا من غير أن نشعر، متذكرين دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
وهكذا كانت موتته والله.
وكأنه لم يرد كما كان طبعه أن يزعجنا أو يفجؤنا برحيله.

أخبرنا الأقارب والأهل، وأبلغناهم أننا سندفنه بمكة كما كان يقول في آخر أيامه
وهو لا يشعر: أريد الذهاب لمكة للصلاة وشرب زمزم!

وكان عمي الشيخ داود العلواني القاضي والعالم المعروف أخبرنا وهو في الطائرة إلينا وسماعه الخبر عند بابها،
إذن فلنصلِّ عليه في الرياض.
ولما وصل إلينا، قال: من حضر من الأقارب فالحمد لله، ومن لم يحضر فمعذور، وليكتفوا بالدعاء.
وكان حرصه -جزاه الله خيراً- على سنة إسراع الجنازة ودفنها. فأخبرته بما كان يقول -رحمه الله- وسهولة نقله مع وسائل العصر إلى مكة،
لكنني كنت مضطراً لإبلاغ شيخنا العلامة محمد الحسن الددو الذي كان يقرأ عليه يومياً -جزاه الله خيرا- فوصل إلينا
وذكر النصوص الشرعية عن مواقف الصحابة في نقل الجنائز للأماكن الأفضل، فاقتنع عمي، وطابت نفوسنا، وصلينا عليه بمكة،
وأدى الصلاة عليه الشيخ الفاضل: سعود الشريم.
ودفن بجوار قبر الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ بن عثيمين -رحمهم الله- جميعاً.


وطويت صفحة من حياة أهل الخير والفضل والإحسان، واقتضت حكمة الله أن أسير في حياتي بعدئذ من غير أب،
راضياً بما قدر الله، مستعيناً في إتمام المسيرة والمشوار الطويل!

على العمري
التعديل الأخير تم بواسطة يمامة الوادي ; 2010-03-13 الساعة 5:15 PM.


توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟