الموضوع: راضي ومطيعة
عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 3  ]
قديم 2010-03-09, 1:46 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
ها قد مات وجدي، مات حبيبي الصغير، مات قرة عيني، مات فلذة كبدي، مات أنيس وحشتي، وسمير وحدتي، ولقد ساهمتَ أنتَ في قتله بكبرك وغطرستك، لقد مات وهو يحبك، وكانت أمنيته أن يراك من كثرة ما حكيت له عنك، فعش كما شئت، وتغطرس كما شئت؛ بَيْدَ أنك في نهاية الأمر ستشرب من الكأس الذي شرب منها، فكل من عليها فانٍ، ولا يبقى إلا وجه الله الكريم، فكيف بك إذا نقر في الناقور، وجُمع مَنْ في القبور، وبُعثتَ يوم النشور؟!
وهنالك، عنده، عند ربِّ العالمين، حين سنقف جميعًا بين يدي الله في يوم الحساب، سيسألك وجدي: "لِمَ تركتني أموت قبل أن أرى الدنيا يا خالي؟ لِمَ لَمْ تشترِ لي الدواء؟"، فماذا ستقول له؟! فأعدَّ لذلك السؤال جوابًا، وانتظر لعلك تبتلى قبل ذلك اليوم، فتعاني ما عانى، وتقاسي ما قاسى، فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.

وفي الختام، أرجو أن تعود إلى رشدك، وتخرج من الوهم الذي تعيش فيه، وتفتش عن قلب الإنسان الذي فيك، فلن ينفعك ما أنت فيه، فإنك عما قريب ستفارقه أو يفارقك.

وصلتْ إليه الرسالة، عن طريق البريد، في وقت كان فيه كئيبًا حزينًا؛ إذ كان قد استلم قبلها رسالة من المحكمة تقضي بإتمام إجراءات الطلاق بينه وبين زوجته سحر، وجاءت هذه الرسالة من أخته لتزيده حزنًا على حزنه، وهمًّا على همِّه، فما أن قرأها حتى دارت به الدنيا وأظلمت في عينيه، وأحس بصدمة، فانتفض قلبه على أثر ذلك، ودبَّتْ فيه الحياة من جديد، فدمعتْ عيناه، ولم يلبث أن أطلق العنان لدموعه لتسيل، فلطالما أمسكها في الأيام الخوالي، وقد آن الأوان لإطلاق سراحها كي تنهمر.

بَيْدَ أنه هذه المرة وضع يديه على رأسه وأخذ يصرخ: "إليك عني أيتها النفس الشريرة الأمَّارة بالسوء، دعيني فأنا إنسان لي قلب لم يمت، ولي عواطفُ وأحاسيس لم تتعطل، كفاني زيفًا، كفاني وَهْمًا!".

ثم قام فجأة وغادر مكتبه، وقاد سيارته بنفسه في اتجاه الحارة القديمة التي عاش فيها طفولته، وغادرها منذ أكثر من عشرين سنة ولم يدخلها منذ ذلك الوقت، اجتمع أهل الحارة حول سيارته، ينظرون إليها في دهشة، فهذه هي المرة الأولى التي يرى فيها هؤلاء مثلَ هذا النوع من السيارات الفخمة تدخل حارتهم، وجرى الأطفال أمامها وخلفها وعلى جانبيها، فعاد به هذا المشهد إلى الماضي، وتذكَّر كيف أنه كان يفعل مثلهم عندما كان يرى سيارة تدخل الحارة.

لم يستطع قيادة سيارته من شدة الزحام وضيق الأزقة، فأوقفها جانبًا ثم ترجَّل منها، جالت الذكريات والخواطر في ذهنه وهو يسير بين الأزقة الضيقة، والشوارع المتسخة، في اتجاه بيتهم القديم، وتذكَّر طفولته وأيام صباه، وتذكر أمَّه وأباه، وكيف أنهما ماتا وهما غاضبان عليه، وتذكر عصيانه إياهما، وتتابع شريطُ الذكريات في خياله حتى وصل به المشهد إلى اليوم الذي غادر فيه هذه الحارة، فتذكر أباه وهو يطرده من البيت، وأمّه تتوسل إليه باكية أن يسامحه! وتمسكُ به وترجوه ألاَّ يغادر المنزل وأن يبقى معهم.

سالت الدموع من عينيه اللتين كان يخفيهما خلف نظارته السوداء، غالَبَ عبراتِه التي كادت أن تخنقه وأخفى بكاءه، وهو يدخل إلى دكان صغير قريب من بيتهم القديم، فرأى شيخًا كبيرًا وقورًا كَتبَ الزمانُ تاريخًا حافلاً بالأحداث على جبهته، وتجاعيد وجهه تحكي قصة حياة حافلة بالمواقف، سأله عن مطيعة فدلَّه على بيتها.

وعندما وصل راضي إلى بيت مطيعة وقف هنيهة يغالب كبرياءه، قبل أن يرن الجرس، فتح فرج الباب، فإذا به يرى رجلاً غريبًا يرتدي حلة سوداء، وربطة عنق وردية، وقميصًا أبيض، ويضع نظارة سوداء على عينيه، تبدو عليه علامات النعمة والثراء، واقفًا على الباب، وما لبث أن دخل فرج مسرعًا إلى غرفة زوجته مذهولاً بعدما تعرَّف عليه وأدخله إلى غرفة الضيوف، ثم قال في دهشة هامسًا في أذنها:
لن تصدِّقي ما سأقوله لك يا مطيعة! إن أخاكِ راضيًا في غرفة الصالون! جاء ليراك، فماذا أقول له؟
اتَّسَعَتْ عيناها من فرط الذهول، ثم صرخت في غضب:
ماذا؟ راضي! ما الذي أتى به، وماذا يريد مني هذا الطاغية؟ ولماذا جاء الآن؟ لقد مات وجدي، أنا لا أريد أن أراه هنا، اطرده من بيتي، كما طردني من مكتبه!

وضع يده على فمها ثم قال لها:
اخفضي صوتك أرجوك، إنه يسمعكِ، لا، لا، هذا ليس من المروءة يا مطيعة، وما ينبغي لنا أن نقع في الخطأ نفسه الذي وقع هو فيه.
لا أريد أن أرى وجهه، فأنا أكرهه، أكرهه، لقد سا...

ثم انفجرتْ بالبكاء ولم تستطع أن تكمل كلامها، لملمت شعث قواها ثم قالت:
... لقد ساهم في قتل ابني، وأهانني وطردني من مكتبه.
يجب أن تعطيه فرصة، فلعله جاء معتذرًا، اسمعي منه أولاً قبل أن تحكمي عليه، أرجوك قابليه من أجلي، ثم لقد مات ابننا بتقدير الله - سبحانه وتعالى.
نظرتْ إلى زوجها، ثم هزَّتْ رأسها على مضض بالموافقة وعيناها تفيض بالدمع.

ما لبث أن سمع راضي صوتَ فرج يدْعوه للدخول، فتقدم نحو غرفتها يقدم رِجْلاً ويؤخِّر أخرى.

استوتْ جالسة على السرير بمجرد أن رأتْه يدخل إلى غرفتها، وكان الغضب يملأ قلبها وعينيها، فها هو أخوها، الذي عَقَّ والديه وتركها صغيرة، وبعد أكثر من عشرين عامًا تذهب إليه وتطلب منه مساعدتها في علاج ابنها الوحيد، فيطردها من مكتبه بأعصاب باردة، واقفًا أمامها في خشوع وتذلل وقد جاء معتذرًا، مرت الخواطر في وجدانها سريعًا، وهي تنظر إليه نظرة حنق، وهو ينظر إليها نظرة اعتذار، قبل أن يتكلم أحدهما بكلمة واحدة.

تقدم نحوها بخطى متثاقلة، ثم انحنى وأخذ يُقبِّل يديها وقد اغرورقت عيناه بالدمع.
سامحيني يا مطيعة، لقد كنت مجرمًا في حقك وحق ابنك، ولقد أتيتك نادمًا بعدما أيقظتْني رسالتُك من غفلتي، وأخرجتني من الوهم الذي كنت أعيش فيه، أرجوك سامحيني يا أختاه.

رنَت إليه ببصرها ونظرت إليه نظرة عتاب، مليئة بمشاعر اللوم والغضب، وقد رقَّ قلبها قليلاً وهي تغالب عواطفها، ولم تنطق بكلمة واحدة.
استمر في كلامه والعَبرة تكاد تخنقه:
لقد أتيتكِ نادمًا معتذرًا، بعدما تبتُ إلى الله، وسأذهب لأعتذر لوجدي في قبره.

أجهشتْ بالبكاء وسالت الدموع على وجنتيها، بمجرد أن سمعت اسم ابنها، ثم قالت بلسان ثقيل:
لِمَ فعلتَ ما فعلت يا راضي؟

انحنى مرة أخرى وقبَّل جبهتها وقال لها وهو يبكي:
لقد نلت جزائي العادل يا مطيعـة، إذ لم أهنأ بشيء في حياتي بعدما فارقتكم، فقد كنت أعيش في تعاسة وشقاء بسبب عصياني لوالديَّ، وعقوقي لأبي وأمي، ليتني لم أعصهما، كانت صورة والدي غاضبًا وهو يطردني تلاحقني، وتنغِّص عليَّ حياتي، وكثيرًا ما كنت أستيقظ مفزوعًا من نومي بسبب ذلك، وقد حاولت مرارًا أن أهرب من الواقع بشتى الطرق، بشرب الخمر، وبالسهرات، والحفلات ولكن دون جدوى، لقد جرَّبْتُ كل شيء لأنسى، ولكن لم تزدني المعاصي إلا عذابًا، ولم تزدني الأيام إلا تعاسة وشقاء، لقد كان الناس يحسدونني على هذا الشقاء وهذه التعاسة، فحالي وحالهم كما قال الشاعر:

مَاذَا لَقِيتُ مِنَ الدُّنْيَا وَأَعْجَبُهُ أَنِّي بِمَا أَنَا بَاكٍ مِنْهُ مَحْسُودْ
وذلك كان يزيد في ألمي وعذابي، فهم لا يعرفون حقيقة الجحيم الذي أعيشه.

سامحيني يا أختاه، كفى العذاب الذي عشتُه وأعيشه، لقد تركني ابني الكبير "سامر"، وعقَّني كما عققتُ والديَّ، وطلقت زوجتي "سَحَر" التي لم ترضَ عني يومًا مع كل ما فعلتُه من أجلها، على الرغم من أنني كنت ألبِّي جميع طلباتها المرهقة، وكنت غالبًا ما أتغاضى عن إهاناتها المتكررة، كانت دائما تعيِّرني بأهلي عندما تغضب مني، وتصفني بأنني ابن الشارع، وأنني لست من طبقتها، وقد حاولت فعل أي شيء لأرقى لمستوى أسرتها؛ لكن دون جدوى، فعلمت أنني قد ارتكبت خطأ بزواجي منها، لقد أخذتْ معها ابنتي رشا، ومنعتني من رؤيتها، فلم أرَها منذ أكثر من سنة، أرجوكِ سامحيني يا مطيعة، فأنا لم أعد أتحمل.

قامت من سريرها متثاقلة، وقد أثار شفقتها واستدرَّ عطفها ببكائه، وأحسَّتْ بصدق لهجته، وبجدِّية توبته، فاحتضنته وهي تبكي وتقول:
الحمد لله الذي أحيا قلب أخي بموت ابني!

ثم طفقا يتجاذبان الحديث، ففاجأته قائلة:
أتدري يا راضي أن آخر كلمة لفظها أبوك هو اسمك، وأنه سامحك قبل أن يلفظ أنفاسه بإلحاح من أمي - رحمهما الله - وقد سمعتُه يقول: "اللهم ارضَ على راضي"، وأن أمك لم يكن لها أمنية إلا رؤيتك قبل أن تغادر الدنيا، وهي أيضًا سامحتْك.

خرَّ ساجدًا شكرًا لله والدموع قد سبقتْه إلى الأرض، مرددًا:
اللهم اغفر لي ولهما، وارحمهما كما ربياني صغيرًا.


توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟