الموضوع: راضي ومطيعة
عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 2  ]
قديم 2010-03-09, 1:45 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
هز رأسه متحسِّرًا، وتنهد بلوعة، كأنه يريد أن يفيق من الحلم، ويواجه الواقع، وهو يفكر في طريقة للخروج من هذا المأزق الذي لم يكن في الحسبان، ويا للقدر! لِمَ جاءت في هذا اليوم بالذات؟ فاليوم سيزورني وزير التعليم، ولطالما انتظرتُ هذه الزيارة، وهو يوم مهم لمستقبلي الوظيفي.

قطعت عليه مطيعة تفكيره بطرقها على الباب، فقام من كرسيه مسرعًا، وأغلق الباب بإحكام.

فتحت ذراعيها وتقدمت نحوه لتحتضنه، فدفعها بقوة وصرخ في وجهها:
ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟

أجهشت بالبكاء، وقالت بحزن شديد والعَبرة تخنقها:
ابني مريض جدًّا يا أخي، إنه يموت، أرجوك ساعدْنا في إنقاذه.
لا تناديني بأخي؛ فأنا أكره أن أسمع هذه الكلمة منكِ، ثم ما علاقتي بالموضوع؟ يموت ابنكِ أو لا يموت، هذا الأمر لا يعنيني.
أحتاج إلى مساعدتك يا أخي لإنقاذه، فنحن فقراء وليس لدينا ثمن العلاج.
لستُ أخًا لك، كما أنه لا يشرفني أن تكون لي أخت مثلك، فأنا لا علاقة لي بك ولا بابنك، لقد نسيتكم منذ فارقتكم، وغيَّرت نمط حياتي، كما أني لا أريد أن أراك، أو أرى أي شيء يذكِّرني بكم.

ثم قال لها بصوت خافت:
إني أحذرك مـن القدوم إلى هنا مرة أخرى، وإياكِ ثم إياكِ أن تقولي لأي شخص في الجامعة: إنكِ أختي، أو إنه تربطني بكِ أيُّ علاقة، الآن اخرجي من هنا بسرعة وبهدوء، ولا أريد أن أراك مرة أخرى.

خرجت من المكتب متثاقلة والدموعُ تنهمر على وجنتيها، ويكاد الألم يمزق قلبَها.

دخلت السكرتيرة إلى مكتبه بعد خروجها، ثم وقفت صامتة برهة وهي تمعن النظر في وجهه.
قال لها مستغربًا:
ما بك؟ لِمَ تنظرين إليَّ هكذا؟

هزَّت رأسها متعجبة، ثم قالت:
لا، لا شيء يا سيدي، غير أن تلك المرأة تشبهك تمامًا، وتبدو وكأنها أختك من شدة الشبه!

قال غاضبًا:
تعلمين بأنني لا أخت لديّ، فلِمَ هذا السؤال السخيف؟ هيا اذهبي لعملك!

قفلتْ مطيعة راجعةً تجر أذيال الخيبة، وقد زادها الذل على الإملاق ثقلاً وحزنًا، وقد علتْ محيَّاها الكآبةُ واليأس، وسالت الدموع على وجنتيها، غير أنها لم تكن ترى شيئًا أمامها إلا صورة وجدي في مخيلتها، وقد وكَّلت أمرها لله، بعد أن يئست من أخيها الذي كان آخر سهم في جعبة أملهـا، وكلما تذكرت الطريقة التي قابلها بها ازداد قلبُها التهابًا، وكلما اقتربت خطوة من بيتها ازداد معدل دقات قلبها، وازداد خوفها من أن تُفاجأ بخبر سيئ، انطلقت كالسهم إلى الغرفة التي كان ينام فيها وجدي، ما أن فتح زوجها الباب، وهي لا تلوي على شيء، فأكبَّتْ عليه تقبِّله وتبكي بأسى ومرارة وهي تقول:
سامحني يا بُني، فأنا عاجزة عن مساعدتك.

أجهشت بالبكاء عندما سألها زوجها عن مقابلتها لأخيها، وقالت بحزن:
ليتني لم أقابله، ليتني لم أره؛ لقد قابلتُ وحشًا، لا قلب له، ولا رحمة في صدره.
لا عليك سيأتي الله بالفرج - إن شاء الله.

وعند حلول المساء طرق جارُهم سالم باب بيتهم، وقد أحضر معه بعض المال، الذي جمعه من المحسنين وأعطاه إلى فرج ثم انصرف، أخذ فرج ومطيعة ابنهما إلى الطبيب في صباح اليوم التالي.

واظبت أمُّه على إعطائه الدواء، الذي أحضره والده من الصيدلية، ولكن للأسف، لم يجد الدواء نفعًا، فازدادت حالة وجدي في التدهور، أسرع به أبواه إلى مستشفى المدينة حينما شارف على الهلاك؛ أملاً في العثور على مَنْ يساعدهما، أو من يشفق على الطفل ويرقُّ لحاله، رفض المسؤول عن استقبال المرضى أن يدخله المستشفى حين علِم أنه ليس لديهما المال الكافي للعلاج.

رجعا به إلى البيت وهما في غاية الحزن، وقد تبدَّد الأمل في إنقاذه، فسلَّما أمرهما لله، وبعد ساعات من رجوعهما إلى البيت دخل وجدي في غيبوبة، ولم يلبث أنْ فارق الحياة في حضن أمه.

أجهشت مطيعة بالبكاء في حالة هستيرية وهي تقبِّله وتضمه إلى صدرها، وفاضتْ عينا فرج بالدمع وطفق يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون!

مضت الأيام بطيئة كئيبة، ومطيعة تواصل الليل بالنهار وهي في غاية الحزن، وكلما تذكرت كلمات ابنها: "أنا لا أريد أن أموت يا أمي، أريد أن أخرج وألعب مع أصحابي"، ازدادتْ لوعتها، وكلما تذكرت مقابلة أخيها القاسية لها ازداد قلبها اشتعالاً، وتضاعف شعورها بالاكتئاب، وكانت تحدوها رغبةٌ جامحة في أن تكتب له رسالة تُعلِمه فيها نتيجة غطرسته، فلعل ذلك يردّ لها اعتبارها، ويخفف من آلامها، ويطفئ لهيب الحزن في صدرها، وأخيرًا أحضرت ورقةً وكتبت:



بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد:
فقد ترددتُ كثيرًا قبل أن أمسك بقلمي، لأكتب لك هذه الكلمات، ولكنني حين وجدتُ نفسي عاجزةً عن نسيان نظراتك الحادة المليئة بالكِبر والغرور، ونبرة صوتك الحانق، قررتُ أن أكتب إليك هذه الرسالة؛ لعل ذلك يذهب ببعض ما أقاسيه.

كم كنتَ قاسيًا يا راضي، حين التقيتك! وكم كنتَ فظًّا غليظ القلب!لم تكن ظروفي النفسية آنذاك تسمح لي بمعاتبتك، ولم أكن أشعر بشيء من جفوتك وقسوتك، فلقد كنتُ مخدرة بالآلام، مثقلة بالأحزان، وقد بلغ بك الصلف والغرور كلَّ مبلَغٍ حتى منعتني من أن أناديك بأخي، لقد بددتَ أملي في أن أجد فيك صدرًا حانيًا، وقلبًا رحيمًا يرحم الله به ضعفي، وينقذ به فلذة كبدي.

لم أكن أبتغي منك إلا حفنة من المال أنقذ بها حبَّة قلبي، وقرّة عيني، وما طرقتُ بابك إلا بعد أن أوصدت كل الأبواب في وجهي، وضاقت بي الأرضُ على اتساعها، كنتُ أحسب أن المدة التي فصلتْ بيننا قد ألانتْ جانبك، وصقلت أخلاقك، وخففت من حدة طبعك، ولكن - وللأسف الشديد - لم تزدك الأيامُ إلا قسوة، ولم تزدك السِّنون إلا جفوة، ليتني لم أرك، وليتني لم أعرفك، وليتني لم أكن أختك.



توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟