ب- آباء صدق، وتعسًا للأبناء:
ضرب الله - سبحانه وتعالى - لنا مثالاً آخر لمن يعقُّ الوالدين، وكيف أن العاقَّ والديه لا يفلح ولا يغني عنه صلاح الآباء من الله شيئًا، فترى أن نبوةَ أبٍ، وطول بقائه بين أبنائه، ودعوته لدين الله ليلاً ونهارًا، ومحاولته مع قومه إعلانًا وإسرارًا - كلُّ هذا لم يكن ينفع مع الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، حتى ولو كانوا أبناءهم، وكما قال الشاعر:
وَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ فِرْعَونُ مُؤْمِنٌ وَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ جِبْرِيلُ كَافِرُ
فنجد أن سيدنا نوحًا - عليه السلام - وقد مكثَ في قومه حوالي ألف سنةٍ، لم يؤمن معه إلاَّ قليلٌ، وكان الأكثر من الكافرين، وكان ابنه مع الكافرين، وعندما انتهى سيدنا نوح من بناء السفينة بأمر من عند الله - سبحانه - وحمل معه على السفينة من كلٍّ زوجين اثنين، ومن آمن معه وأهلَه، نادى - عليه السلام - على ولده الذي رفض الإيمان معه؛ أملاً منه أن يكون مع الناجين، وبعد أن يرى بعينيه ما يحلُّ بالكافرين، ربما يكون له رأيٌ آخر في عقيدته.
ولكن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فقد كان الابن - بالإضافة إلى كُفْره بدين الله - عاقًّا لوالده، وكما قابل نِعَم الله بالكفر، قابل حنانَ الأب بالجحود، وعمومًا كل إنسان يفعل ما هو أهلٌ له، وكل إناءٍ بما فيه ينضح، فالصالح يفكِّر بصلاحه {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].
والفاسد يضلُّ؛ لأنه انقاد للشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43].
ويستمرُّ الأب الصالح في محاولته؛ لينقذ ابنه من براثن الشيطان، وليبعده من نقمة الله وعقابه {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43].
ولكن الله بالغ أمره، وهو أعلم بالظالمين، وقد حكم بالحقِّ، وهو خير الحاكمين، ويا نوح لا تذهب نفسك حسرات عليه؛ لأنه عمل غير صالح {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43].
وانظر عزيزي القارئ كيف كان عاقبة المكذبين؟! وكيف فعل الشيطان بالإنسان حين عشش في رأسه وباض وأفرخ؟ فاحذر مكايد الشيطان، وتعلَّم من أنباء ما قد سبق {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
وقصة ثانية تدور بين والدين صالحين مؤمنين ولهما ابنٌ عاقٌّ أرهقهما طغيانًا وكفرًا، فقال لوالديه: أفٍّ لكما {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} [الأحقاف: 17].
ورفض هذا الابن الإذعان لنداء الحقِّ، وضلَّ ضلالاً بعيدًا، وأتْبَعه الشيطانُ فكان من الغاوين، وحقَّ عليه القول فكان من الخاسرين، وعرَّض نفسه ليجازى بعذاب الهوى لأنه كان من المستكبرين بغير الحقِّ وكان من الفاسقين {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17]، فسار على نهج الضالين، وكلُّهم حطب جهنم مع جنود إبليس وجنود فرعون وهكذا يكون مصير الظالمين والمجرمين {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29].
وعلينا أن نتعلَّم من سيرة الأمم التي خلَتْ من قبلنا، ونتجنَّب المهالك التي كانت للطاغين، ونرى كيف كان مصير الظالمين عند ربِّ العالمين، حيث يُكَبْكَبُ في النار كلُّ الغاوين وجنود إبليس أجمعون، وليس لهم شُفعاء عند ربهم ولا صديقٌ حميم.