عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 10  ]
قديم 2005-08-23, 1:13 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
- الهم العاشر والاخير: الخلق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ها نحن وصلنا أحبتي في الله إلى آخر هموم هذه النفس الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبعدنا عن شر النفس الأمارة بالسوء ، ويقربنا من نفسنا التي تأمرنا بالطاعة والعبادة .

أين أنت يا نفسي ؟؟

فأنا ما زلت أحدثك عن همومي التي أعترتني وأتمنى أن تتحمليني لأني اليوم سأحدثك بآخر همومي ولن أزعجك مرة أخرى بهذا الحديث ، فهل تقبلين الحديث معي للمرة العاشرة والأخيرة .

فأجابت مبتسمة والسعادة تملأها : نعم بكل سرور حتى أنتهي من لومك وتعنيفك المستمر لي .

ولكن يا نفسي قد يطول الحديث هذه المرة ، فقاطعتني قائلة : لا بئس ما دام أنها المرة الأخيرة .

فقلت لها : أريد أن أفر من مخاصمة الخلق ومن التشفي والأنتقام لمن أساء إلي في هذه الدار الفانية ، وأريد أن أعطي من حرمني ، وأصل من قطعني ، وأعفو عمن ظلمني . أي أنني أريد أن أصل إلى القلب السليم الذي سلم من الغل والحقد والعداوة والبغضاء لكل مسلم ولكل من أساء إلي ...

فقالت النفس : أتريدين أن يكون قلبك سليما على من ظلمك وحرمك وقطعك وأخذ حقك ؟؟؟

فقلت لها : كما قلت لك يا نفسي سابقا أنك لم تفهميني ، فأنا يا نفسي مؤمنة موحدة فلا بد أن أتخلق بأخلاق الأسلام ، فأنا أحمل أعظم شهادة في الوجود شـــهـــادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وسأبين لك بعض المشاهد التي لابد أن تعرفيها حتى تعينيني على هذا الأمر ، وحتى يكون كل موحد وموحدة على بصيرة من هذا الأمر ، وبعد ذلك سوف تعذريني وتقولي سوف أتوب وأتوب من غفلتي عن هذا الأمر .

فــهــنــاك يا نفسي إحدى عشر مشهدا ذكرهم الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين ليستعين بهم كل موحد على ما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه .

الـــــــــمــــــشـــــــهــــــد الأول : ( مشهد القدر )

وهو أن يشهد ويعلم أن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره ، كالتأذي من الحر والبرد والمرض والألم ، وهبوب الرياح ، وإنقطاع الأمطار ، فإن الكل أوجبته مشيئة الله ، فما شاء الله كان ووجب وجوده ، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده .
وإذا شهد هذا : استراح وعلم أنه كائن لا محالة ، فما للجزع منه وجه ، كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت .

الـــمـــــشــــهـــــد الثاني : ( مشهد الصبر )

فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله ، وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ، ويخلصه من ندامة المقابلة والأنتقام ، فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة ، وعلم أنه لم يصبر اختيارا على هذا ( وهو محمود ) وإنما صبر اضطرارا على أكبر منه ( وهو مذموم).

الـــمـــشـــهــــد الثالث : ( مشهد العفو والصفح والحلم )

فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه ، و (ما زاد الله عبدا بعفو ألا عزا ) كما صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل .
وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالأنتقام ، ما ليس شيء منه في المقابلة والأنتقام .

الـــمــــشــــهـــــد الرابع : ( مشهد الرضـــا )

هو فوق مشهد العفو والصفح ، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة ، لا سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله ، فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته رضيت بما نالها في الله ، وهذا شأن كل محب صادق ، يرضى بما يناله في رضا محبوبه من المكاره ، ومتى تسخط به وتشكى منه كان دليلا على كذبه في محبته .

الــــمـــــشـــــهـــــد الخامس : ( مشهد الإحسان )

وهو أرفع مما قبله ، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان ، فيحسن إليه كما أساء هو إليه .
ويهون عليه هذا :
* علمه بأنه قد ربح عليه ، وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه ، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما أعطاه إليك من حسنات .
* ويهونه عليك أيضا : علمك بأن الجزاء من جنس العمل ، فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه . وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك ، فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك ، ويقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك ، فهذا لا بد منه .

الــــمــــشـــهــــد السادس : ( مشهد سلامة وبرد القلب )

وهذا مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته ، وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى ، وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه ، بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له ، وألذ وأطيب وأعون على مصالحه ، فإن القلب إذا أشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه ، فيكون بذلك مغبونا والعاقل لا يرضى بذلك ، وهذه من تصرفات السفيه ، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإشغال الفكر في إدراك الأنـــتـــقـــام ؟؟؟

الـــمـــشــــهـــــد السابع : ( مشهد الأمن )

فأن الأنسان إذا ترك المقابلة والأنتقام : أمن ما هو شر من ذلك ، وإذا أنتقم واقعه الخوف إلى الأبد .
فإن ذلك يزرع العداوة ، والعاقل لا يأمن من عدوه ولو كان حقيرا ، فكم من حقير أردى عدوه الكبير ؟ فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل : أمن من تولد العداوة أو زيادتها . ولا بد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ، ويكف من جزعه ، وهو بعكس الأنتقام والواقع شاهد بذلك أيضا .

الـــــمــــــشـــــهـــــد الثامن : ( مشهد الجهاد )

وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وإقامة دين الله وإعلاء كلماته .
وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن ، فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها ، فلا حق له على من آذاه فإن كان قد رضي بعقد هذا التبايع ، فإنه وجب أجره على الله .
وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، ولهذا منع النبي - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين من سكن مكة - أعزها الله - ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار ، ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله .
ولما عزم الصديق - رضي الله عنه - على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم ، قال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمشهد من الصحابة : ( تلك أموال ودماء ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد ) ، فوافق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق .
فمن قام لله حتى أوذي في الله حرم عليه الأنتقام ، كما قال لقمان لابنه : ( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) .

الـــــمـــــشــــهــــد التاسع : ( مشهد النعمة )

أحدها : أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوما يترقب النصر ، ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ . فلو خير العاقل بين الحالتين لاختار أن يكون مظلوما .
ومنها : أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه ، فإن ما أصاب المؤمن من هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه .
ومنها : أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها ، فإن ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر ، فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده ، وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين هينة ، وأنها في الحقيقة نعمة لأن المصيبة الحقيقية هي مصيبة الدين .

الــــمــــشــــهـــــد العاشر : ( مشهد الأسوة )

وهو مشهد شريف ولطيف جدا ، فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وخاصته من خلقه ، لأنهم أشد الخلق امتحانا بالناس ، ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم ، وشأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله . وقد قال له ورقة بن نوفل : " لتكذبن ولتخرجن ولتؤذين ، فما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي " .
أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله ، وخواص عباده : الأمثل فالأمثل ؟
ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء ، وأذى الجهال لهم ، وقد صنف في ذلك ابن عبدالبر كتابا أسماه ( مــــحــــن العلماء ) .

الــــمـــــشــــهــــد الحادي عشر : ( مشهد التوحيد )

وهو من أجل المشاهد وأرفعها ، فإذا امتلأ قلب الأنسان بمحبة الله والأخلاص له وإيثار مرضاته والتقرب إليه والأنس به والأطمئنان إليه ، فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ، فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الأنتقام والمقابلة ، فهذا لا يكون إلا من قلب جائع غير شبعان ، فإذا رأى أي طعام هفت إليه نفسه ونوازعه ، وانبعثت إليه دواعيه ... وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها فإنه لا يلتفت إلى ما دونها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .



وأخــــيــــرا يـــــــا نـــفـــــســــي :

عرفتي أن هذه الهموم كلها المخرج لها واحد لا ثاني له : وهو الأعتصام بحبل الله والتمسك به والألتجاء إليه وتفويض الأمر كله إليه ، ولا يكون ذلك إلا بتعلم التوحيد الذي هو أوجب الواجبات .

فقالت النفس : أريـــــــد أن أتــــــــوب ...

فقلت لها : هيا توبي الآن ، فباب التوبة مفتوحا دائما ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .
فجزاك الله خيرا أن صبرت علي حتى وقفت مع نفسي هذه الوقفة الطويلة ، لكي أعرض همومي ، وأسأل الله أن يجعلك عونا لي على طاعته ، ولكنني أستغيث بالله العظيم وأدعوه ( يــا حــي يــا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ولا إلى أحد من خلقك ) اللهم آآآآآآآمـــــيـــــــن .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لكم مني جزيل الشكر والامتنان
عمق القلوب