- الهم التاسع:الاستقامة.
ها أنا قد عدت من جديد كما وعدتك أيتها النفس حتى نتحدث عن أهل الأستعانة .
فمن هم هــــــؤلاء؟؟؟
سئل أبو حنيفة : بما أدركت العلم ؟
قال : بالجهد والحمد والشكر ، فكلما فهمت ووقفت على فقه وحكمة فقلت الحمد لله ، فازددت علما .
وقال شيخ الأسلام :
ربما طالعت على الآية الواحدة مائة تفسير ، ثم أسأل الله الفهم وأقول يا معلم آدم وإبراهيم علمني .
فكيف يا نفسي أعتمد بعد ذلك عليك ؟؟
يا رب :( اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي )
( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا أو إلى أحد من خلقك ).
فصرخت النفس غاضبة : أتطلبين من الله أن يقيك مني!! لماذا ؟ هل أنا سيئة إلى هذا الحد ؟؟
فقلت لها : في الحقيقة أنك أعدى أعدائي ، لأنك تقطعين الصلة بيني وبين وصول العلم الى قلبي ، وكذلك قاطعة أن يصل قلبي إلى الله ، لأنك أيتها النفس جبل عظيم وشاق جدا في السير به الى الله ، وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل ، ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو يسير عليه بما يسره الله له .
فسألتني نفسي بسخرية : فما المخرج اذا ؟ فالأمر صعب عليك .
فأجبتها قائلة : المخرج في قوله تعالى:( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) أي يدافع عن عبده المؤمن اذا اعتصم به من كل سبب يفضي به إلى الهلاك ويحميه منه :-
فيحميه من الشبهات والشهوات .
2- ويحميه من كيد عدوه الظاهر والباطن .
3-ويدفع عنه موجبات الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام بالله .
4- ويحميه من شر نفسه .
وبحسب افتقار العبد الى الله وانكساره له يحميه الله من شر نفسه فلا يعتمد عليها طرفة عين ، ويحميه من شرورها ، لأن طغيان النفس شديد .
وتحدثت النفس وهي ما زالت غاضبة وقالت : لقد اتهمتيني بأني قاطعة بين وصول العلم الى قلبك ، فكيف ذلك ؟
فقلت لها : تأملي معي جيدا هذا المثال ، ألا وهو الرجل الذي يكون كثير الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما وصل إلى قلبه محبة ولا خوف ولا زهد في الدنيا ولا رغب في الآخرة ولا نور يفرق به بين الحق والباطل ، وسبب ذلك النفس ، ما طلبت العبادة والعمل الصالح لوجه الله ، ولكن أرادت أن تأخذ حظها هي ، فلم يثمر هذا العلم وهذا العمل ثمره في القلب ، فأصبح قلبا خاويا ......
وانظري يـــــا نـــفــــــســــــي : إلى أول من تسعر بهم نار جهنم ، أول وجبة في النار كما وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان منهم الجواد والمتصدق وقارئ القرآن ، فما الذي حال بينهم وبين دخول الجنة ، عملوا أعمالا في منتهى الروعة والصلاح ومع ذلك لم يكن لهذه الأعمال ثمرة في القلب ولا ثمرة لدخول الجنة .
ولكن لما حالت نفوسهم بينهم وبين هذا الأمر واستطالت وعظمت أخذت نصيبها . فجاهد ليقال جريء وقد قيل ، وقرأ ليقال قارئ وقد قيل ، وتصدق ليقال جواد وقد قيل ....
لقد أردت أيتها النفس أن تأخذي حظك ونصيبك من تلك الأعمال ، واستعجلت الأجر وما فقهتي كلام الله
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) فمن أراد أن يقبض الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها فلا حق له على من آذاه ، ولا شيء له عنده ، ولا أجر له على عمله هنا إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فإنه قد وقع أجره على الله .
فكيف أعتمد بعد ذلك على نفسي وهي أعدى أعدائي ؟
- تطلب العلم فتعجب وتتكبر فيحول بينك وبين الجنة .
- تطلب العلم لترائي الناس فيحول بينك وبين الجنة .
- تطلب العلم لتتفاخر وتتباهى فيحول بينك وبين الجنة .
- تطلب العلم لكي تعظم في عيون الخلق فيحول بينك وبين الجنة .
ولذلك يحكى عن بعض العارفين أنه قال : دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت على باب إلا رأيت عليه زحام فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا به أقرب باب وأوسعه ولا مزاحم عليه ولا معوق . .
ولذلك كان شيخ الأسلام : اذا أثنى عليه في وجهه يقول : ( والله إني الآن أجدد إسلامي وما أسلمت بعد إسلاما جيدا ) ، وكان كثيرا يردد ( ما مني شيء ، ولا بي شيء ، ولا في شيء ) .
وهذه والله أعظم ثمرات التوحيد حين يكون إزراء النفس والتبرؤ منها وعدم الأعتماد عليها والاستعانة بالله من شرها ، وشر ما فيها ، وشر ما يتولد فيها .
واعلمي يا نفسي أنه لم سئل أحدهم :ما علامة المعرفة في القلب ؟ قال : أنس القلب بالله .
فإذا دخل النور الى القلب ، آنس القلب به ، وآنست به القلوب ، ولذلك كان محمد بن واسع : اذا نظر في وجه محمد بن المنكدر اجتهد أسبوعا كاملا ، وهذا النور يشع من القلب على اللسان والجوارح حتى يشع على الصراط يوم القيامة .
وأذكرك يا نفسي بهذ الآية : قال الله تعالى ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعودون ) .
س : سئل صديق هذه الأمة وأعظمها استقامة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن الأستقامة ؟
فقال الأستقامة هنا على محض التوحيد ، واستقامة القلب لا تتم إلا بخمسة أشياء :
1- استقامة على التوحيد .
2- استقامة على متابعة السنة .
3- استقامة على إتباع الأمر .
4- إستقامة على الذكر .
5- إستقامة على الأخلاص .
فالأستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات ، والأستقامة على ذلك يكون وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله .