34- ومن عقوباتها : أن العاصي دائمًا في أسر شيطانه ،وسجن شهواته ، وقيود هواه ، فهو أسير مسجون مقيد ، ولا أسير أسوأ حالاً من أسير أسره أعدى عدو له ، ولا سجن أضيق من سجن الهوى ، ولا قيد أصعب من قيد الشهوة ، فكيف يسير إلى اللَّه والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد ؟ وكيف يخطو خطوة واحدة ؟ وإذا تقيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده ، ومثل القلب مثل الطائر ، كلما علا بعد عن الآفات ، وكلما نزل استوحشته .وأصل هذا كله : أن القلب كلما كان أبعد من اللَّه كانت الآفات إليه أسرع ، وكلما كان أقرب إلى اللَّه بعدت عنه الآفات ، والبعد من اللَّه مراتب ، بعضها أشد من بعض ، فالغفلة تبعد العبد عن اللَّه ، وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة ، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية ، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله .
35- ومن عقوباتها :سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند اللَّه وعند خلقه .
36- ومن عقوباتها : أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف ، وتكسوه أسماء الذم والصغار ، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والتقي والمطيع والمنيـب والولي والورع والمصلح والعابد والخائف والأوَّاب والطيـب والمرضى ونحوها ، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيئ والمفسد والخبـيث والمسخوط والزاني والسارق والقاتل والكاذب والخائن واللوطي والغادر وقاطع الرحم وأمثالها ، فهذه أسماء الفسوق و[ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ] [ الحجرات : 11 ] التي توجب غضب الديان ، ودخول النيران ، وعيش الخزي والهوان ، وتلك أسماء توجب رضاء الرحمن ، ودخول الجنان ، وتوجب شرف المسمى بها على سائر أنواع الإنسان .
37- ومن عقوباتها : أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل ، فلا تجد عاقلين أحدهما مطيع للَّه والآخر عاص إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل ، وفكره أصح ، ورأيه أسدّ ، والصواب قرينه ، ولهذا تجد خطاب القرآن إنما هو مع أولي الألباب والعقول ، كقوله : [ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ] [ البقرة : 197 ] .
38-ومن عقوباتها : أن تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيَّأ لأن يكون من العلية ، فإن اللَّه خلق خلقه قسمين : علية ، وسفلة ، وجعل عليـين مستقر العلية ، وأسفل سافلين مستقر السفلة ، وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة ، وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة .
39- ومن عقوباتها : أنها تجرئ على العبد ما لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات ،
فتجرئُ عليه الشياطين [ الإنس والجن ] وتجرئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم .
40- ومن عقوباتها : أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه ...والمقصود : أن العبد العاصي إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له ، فلا ينجذب قلبه للتوكل على اللَّه تعالى والإنابة إليه ، والحمية عليه ، والتضرع والتذلل والانكسار بـين يديه ، ولا يطاوعه لسانه لذكره ، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بـين قلبه ولسانه ، فلا ينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر فيه الذكر ، ولا ينحبس اللسان والقلب على المذكور ، بل إن ذكر أو دعا بقلب غافل لاه ساه ، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ، ولم تطاوعه ، وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي ، كما له جند يدفع عنه الأعداء ، فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم ، وقطع أقواتهم ، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة .هذا ، وثَمَّ أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر ، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى اللَّه تعالى ، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة ، كما شاهد الناس كثيرًا من المحتضرين من أصابهم ذلك ، حتى قيل لبعضهم : قل (( لا إله إلا اللَّه )) ، فقال : شاه ورخ غلبك ثم قضى (شاه ورخ قطعتان من قطع الشطرنج . والمحتضر يذكرهما لأنهما أخذا عليه لبه وعقله من كثرة اللعب) .
41- ومن عقوباتها : أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه ابليس لعنه الله عليه ، وجيش يقويه به على حربه . ( أي أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ، ويعينهم بها على نفسه ، فيقاتلونه بسلاحه ، والجاهل يكون معهم على نفسه ، وهذا غاية الجهل والسفه)
42- ومن عقوباتها : أنها تنسي العبد نفسه ،فإذا نسي نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها ، فإن قيل : كيف ينسى العبد نفسه ؟ وإذا نسي نفسه ، فأي شيء يذكر ؟ وما معنى نسيانه نفسه ؟قيل : نعم ينسى نفسه أعظم نسيان ، قال تعالى : [ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ [ الحشر : 19 ] ، فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم ، كما قال تعالى :[ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ] [ التوبة : 67 ] ، فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين :
إحداهما : أنه سبحانه نسيه والثانية :أنه أنساه نفسه .
ونسيانه سبحانه للعبد
إهماله وتركه وتخليه عنه وإضاعته ، فالهلاك أدنى إليه من اليد إلى الفم .
وأما إنساؤه نفسه
فهو إنساؤه لحظوظها العالية ، وأسباب سعادتها وفلاحها وإصلاحها وما يكملها ، ينسيه ذلك جميعه ، فلا يخطره بـباله ، ولا يجعله على ذكره ، ولا يصرف إليه همته فيرغب فيه ، فإنه لا يمر بـباله حتى يقصده ويؤثره . وأيضًا ينسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها ، فلا يخطر بـباله إزالتها وإصلاحها .
43- ومنها : المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة ،قال تعالى :[ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ] [ طه : 124 ] ، وقد فسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ، ولا ريـب أنه من المعيشة الضنك ، والآيات تتناول ما هو أعم منه ، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات ، فإن عمومها من حيث المعنى ،
فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره ، فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب
إعراضه ، وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم ، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب
والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه ، وإنما تتوارى عند سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة ، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر ، فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر ، فإنه يفيق صاحبه ويصحو ،
وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في الأموات ،
فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر اللَّه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم
في دنياه ، وفي البرزخ ، ويوم معاده ،
ولا تقر العين ولا يهدأ القلب ، ولا تطمئن النفس إلا بإلاهها ومعبودها الذي هو حق ،
وكل معبود سواه باطل ،
فمن قرت عينه باللَّه قرت به كل عين ،
ومن لم تقر عينه باللَّه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات .
إلى أن قال رحمه اللَّه تعالى في نهاية الكلام عن آثار المعاصي : فانظر إلى الآخرة كأنها رأي العين ، وتأمل حكمة اللَّه سبحانه في الدارين ،
تعلم حينئذ علمًا يقينًا لا شك فيه ، أن الدنيا مزرعة الآخرة وعنوانها وأنموذجها ،
وأن منازل الناس فيها من السعادة والشقاوة على حسب منازلهم في هذه الدار من الإيمان والعمل الصالح وضدها ،
فمن أعظم الذنوب الخروج عن الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة ، وباللَّه التوفيق . انتهى كلام ابن القيم رحمه اللَّه تعالى ، وأحيطك علمًا بأن تلك النقاط السابقة مجرد عناوين وقليل من الشرح لما في كتاب (( الجواب الكافي )) ،هذا الكتاب القيم لابن القيم الجوزية .
مقتبس من كتاب ففـــروا إلى الله
للشيخ /أبي ذر القلموني