المحبة طريق التلقي
هشام محمد سعيد قربان
يدق جرس الساعة فجأةً، فيوقظ روح التأمل من نوم طويل ثقيل، إنها قصة واقعية مؤثرة لطبيبٍ مشْهور ألزم نفسه بأمرٍ لا يحبه ولا يطيقه، وهو متابعة أحداث كرة القدم، ومعرفة فُنُونها، وحفظ أسماء فرَقها ولاعبيها ونُجُومها، والتحدُّث عن المباريات المحليَّة والإقليميَّة والعالميَّة، لماذا أقحم نفسه في هذا الأمر الذي لا يستهويه بطبعه، وفي هذا - كما لا يخفى - مرارة وصُعُوبة على النفس؟ تكمُن في إجابة هذا السؤال الحكمة التي هيجت كامن الأشجان، فحررت من سجن بلادة الطبع دمعة حارة، فعل هذا الطبيب الذكي ما لا يطيق قصدًا ليصل إلى غاية عليا، هي بناء جسور تواصُل ومحبة مع أولاده، فيتحدَّث معهم عن الكرة وأخبارها وأهدافها المثيرة، وهم ذاهبون للمسْجد للوضوء، وأداء الجُمَع والجماعات، وما زال هذا شأنه حتى أوشك على بناء متلازمة نفسية بين الكرة التي يحبها وأولاده كثيرًا، وبين الوضوء والصلاة، وهذه وسيلة ذكية لغرْس العادات الحميدة، والتأثير غير المباشر بدون حاجة لوعْظ جاف أو تقريع جارح.
تصور هذه القصة ذات المغازي والعبَر نوعًا راقيًا ونادرًا منَ التواصُل الإنساني الفاعل والمؤثِّر، يَتَضاءَل أمامه كل ما تعلمناه خطأً من أنواع التواصُل غير الفاعل؛ مثل: التواصل من طرفٍ واحدٍ تواصُلاً يلغي وجود الآخر، أو التواصُل من الأعلى للأسفل، أو التواصُل المبني على تضْخيم دور الأب حتى يضيع في ظله صوت الابن وحاجاته العمرية، ورغباته الشخصية التي تخنقها قولبتنا القسرية الجائرة، فيصبح حالنا كحال مَن لم يسمع بنصيحة نبوية تقول: ((إن كلاًّ مُيسر لما خُلق له))، أو كحال من حكى القرآن قولته المغرورة إذ يقول: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].
المحبة طريق التلقي، هذه مقولةٌ قديمة حفظناها وما وعيناها، ولعل هذه الحكمة تلخص قصة ذلك الطبيب الحكيم وأسلوبه الرائع في التواصُل والتربية، فإننا إذا دخلنا إلى قلوب من نحب عن طريق ما يحبون، وإن كان لا يستهوينا، كسبنا ثقتهم وحبهم، وتفتحتْ قنوات التلقِّي في قلوبهم البريئة وعقولهم النامية، فإن المحب لمن يحب يطيع.
متى كانتْ آخر مرة لعبت فيها مع أولادك وبناتك بألعابهم الإلكترونية؟ أو حادثتهم حديثًا يستهويهم عن الكرة وسيارات السباق والدمية فلة، وأناشيد طيور الجنة، وأحدث أصناف الهاتف النَّقَّال، وبرامج الحاسب الآلي، وقصص الخيال العلمي؟
ألَم يأْن لأنماط التواصُل المبتورة وغير الفاعلة أن تندثرَ وتُمْحى بلا رجعة من معجم مسلماتنا الموروثة، وتنسحب مهزومة من سجل سلوكياتنا المختارة؟ أو لعلنا نحتاج إلى إيقاظ غير رفيق وتذكرة مفجعة بحقيقة مهمة نسيناها أو تناسيناها، وهي أن أطفالنا الأحباء يعيشون طفولتهم ومراهقتهم مرة واحدة فقط، وهذا يعني أن لدينا فرصة وحيدة لبناء قواعد المحبة وجسور التواصل القوية في أجمل مرحلة من مراحل حياة أحبابنا وفلذات أكبادنا: مرحلة الطفولة البريئة.