إخيتارها لحكمة


في الختام تأتي آية رائعة بتلخيصها حياة سيدنا يعقوب (وإسرائيل) في أسطر (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133).فهنا حرص سيدنا يعقوب على نقل أمانة الاستخلاف من آبائه إبراهيم واسحق إلى ابنائه وذريته بني إسرائيل.
وقصة البقرة أنّ رجلاً من بني اسرائيل قتل ولم يعرف من قتله، فاختلف فيه فأوحى الله إليهم أن اذبحوا بقرة وأن يأخذوا قطعة منها ثم يضربوا بها الميت فيحييه فيقول من الذي قتله ولقد طلب الله تعالى منهم ذلك لأنهم ماديون للغاية وليريهم بأنه تعالى قادر على كل شيء وأن الأمور ليست كما تعوّدوا عليه دائماً فيحيي الميت بالميت فينطق.
وبما أنهم لم يفهموا الحكمة وبما أنهم ماديون جداً فقد رفضوا تطبيق الأمر، وقصة البقرة تجسّد أخطاء بني إسرائيل، من المادية إلى الجدل وعدم طاعة أنبيائهم إلى عدم طاعة الله تعالى والإلتواء على منهجه وحتى حين نفّذوا ما أمرهم الله به نفّذوا ذلك مكرهين مجبرين (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ).
وكأنّ قصة البقرة تنبّه من المادية الشديدة وكأنها تنبّه من الجدل في دين الله تعالى، تنبّه من المراوغة والتحايل على شرع الله تعالى، أو أن تنفّذ شرع الله تعالى وأنت كاره لذلك فسمّيت سورة البقرة لخطورة هذه الأفعال.
تميّزوا حتى في مصطلحاتكم

وتمضي الآيات إلى أن نصل إلى الآية التي يذكر فيها لأول مرة (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ). وهذا يتجلى في قوله تعالى (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ (104).
لقد كان اليهود يخاطبون النبي صلى اله عليه وسلم بقولهم (راعنا) ومعنى راعنا أي راعي أمورنا ولكنهم كانوا يقصدون بها معنىً سيئاً بلغتهم (إسمع لا سمعت) أو تعني شيئاً من الرعونة. ومن لا يفهم لغتهم ولا يعرف ما يقصدون يظن بأنهم يقولون للنبي راعي أمورنا. فالله جل وعلا يقول للصحابة لا تقولوا راعنا ولكن قولوا انظرنا والكلمتان تحملان المعنى نفسه ولكن ذلك تغيير في المصطلح..
وكأن المعنى: ......تميّيزوا حتى في مصطلحاتكم. فالله تعالى يريد أن يفهمنا بأن الأمة السابقة قد وقعت بأخطاء شديدة فلا تتّبعوها أو تقلّدوها، وتميّزوا عنها حتى في مصطلحاتكم وهنا علاقة مع سورة الفاتحة حين يطلب المؤمن أن لا يكون مثل بني إسرائيل (غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ) وتأملوا شباب اليوم كيف تقلّد الأمم الأخرى وكيف تقلّد الغرب في أتفه الأشياء بينما الله تعالى يعلّمنا أن نتميّز حتى في مصطلحاتنا.
وبعد ذلك تعددت الايات التي تحذّر من التبعية، لأنها تبدأ بالأشياء الثانوية ولن تنتهي الا بالكفر والعياذ بالله: (وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا(109)
التجربة الناجحة: إبراهيم عليه السلام


ونصل إلى الربع الأخير من الجزء الأول والذي يتحدث عن تجربة
إبراهيم وهي تجربة ناجحة جاءت في نهاية الجزء للتحفيز على النجاح
في امتحان الاستخلاف: (وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ
إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (124). ولاحظ أن سيدنا إبراهيم
لم ينجح في الامتحان نجاحا عاديا بل (أَتَمَّهُنَّ) أي قام بهنّ خير قيام فلما أتمّ هذه الابتلاءات (الرمي في النار، الهجرات وترك الولد في الصحراء، ذبح الولد..). أخبره الله انه سيجعله للناس إماماً (الاستخلاف) لأنه قد اطاع الله تعالى فقال إبراهيم عليه السلام (قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ (124)
فقوله لا ينال عهدي الظالمين درس هام لنا بأن الله تعالى لا يحابي أحداً حتى أمة محمد والاستخلاف مقرون بالطاعة لا بالنسب وبهذا المعنى يدعو سيدنا إبراهيم أن يستخلف واحداً من ذريته (رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً(129).
ومن المفيد هنا ملاحظة بدايات القصص الثلاث: فكلها بدأت بآيات تبيّن مجال الاستخلاف وكلها اشتملت على اختبارات في طاعة الله تعالى:
قصة آدم: أول آية في القصة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً (30) (اختبار آدم في مسألة عدم الأكل من الشجرة).
قصة بني اسرائيل : أول آية في القصة: (يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِى ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ (47) (الاختبار في تنفيذ أوامر الله المختلفة وشكر النعم).
قصة إبراهيم: أول آية في القصة وهي الآية 124: (إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا )(وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)
(تحدي الاب - تحدي القوم - الرمي في النار – الهجرة - ترك الولد والزوجة في الصحراء - الذبح).
