ساعة الاحتضار . .
ساعات الاحتضار هي الساعات الأخيرة من عمر الإنسان ، الذي حدده الله لكل مخلوق ، وهي من أقسى الساعات وأشدها في حياته ، وهي ساعات لم يبعث أحد بعد الموت ليحدثنا عن تفاصيلها وآلامها ومعاناتها ، ويكفينا لمعرفة ذلك ، أن خير الخلق وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم كان عند احتضاره وهو يمسح العرق عن جبينه : ( إن للموت سكرات ) ، يحدث هذا لخير الخلق فكيف بمن هو دونه ؟ ! !
هي ساعات يزول فيها خوف المحتضر من كل شيء ، الخوف على النفس ، والخوف على الرزق ، والخوف من المستقبل ، والخوف من الإنسان ، والخوف بجميع أنواعه المزيفة .
ذلك الخوف الذي كان يمنعه من النطق بالحقيقة التي يؤمن بها ، ومن الكلمة التي كان يعتقد بها ، ومن الفعل الذي كان يعلم صوابه . يزول هذا الخوف ويبقى خوف واحد يلازمه في تلك الساعات ، وهو الخوف الحقيقي ، والذي أمر به الإنسان ، ألا وهو الخوف من الله .
وعندما يستسلم المحتضر للموت الذي يأكل جسده رويدا رويدا ، وهو وأحباؤه يرونه يلتهم هذا الجسد ، وهم صامتون لا يستطيعون إيقاف مسيرته : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم . وأنتم حينئذ تنظرون . ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون . فلولا إن كنتم غير مدينين . ترجعونها إن كنتم صادقين ) . " الواقعة : 83 : 87 " وتأكد نزول الموت لا محالة : ( وظن أنه الفراق ) واستيقن انتفاء أسباب الخوف من غيره ، وهو في مثل هذه الساعات ، ينطق بالكلمات الأخيرة ، والتي تكون مجردة من كل أنواع الموانع التي تعكر صفوها . وبخاصة إذا خرجت تلك الكلمات من الذين قضوا حياتهم في خدمة ربهم واتباع سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم ، فتكون كلماتهم نبراسا ينير الدرب للثابتين من بعدهم على هذه الجادة .
كلمات أبي بكر
عندما استسلم الصديق للموت ، قال موصيا الخليفة من بعده عمر بن الخطاب ( رضي الله عنهما ) :
( اعلم أن لله عز وجل في النهار حقا لا يقبله في الليل ، واعلم أن لله عز وجل في الليل حقا لا يقبله في النهار ، واعلم أنه لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ، واعلم أن الله عز وجل ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ، فيقول القائل : أين يقع عملي من عمل هؤلاء ؟ وذلك أن الله عز وجل تجاوز عن سيئ أعمالهم فلم يثربه . واعلم أن الله عز وجل ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم ، ويقول قائل : أنا خير من هؤلاء عملا ، وذلك أن الله عز وجل رد عليهم أحسن أعمالهم فلم يقبله . واعلم أن الله عز وجل أنزل آية الرخاء عند آية الشدة ، وآية الشدة عند آية الرخاء ، ليكون المؤمن راغبا راهبا لئلا يلقي بيده إلى التهلكة ، ولا يتمنى على الله إلا الحق . واعلم إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا ، وثقل ذلك عليهم . واعلم إنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا ، وخفة ذلك عليهم . فإن أنت قبلت وصيتي هذه فلا يكون شيء أحب إليك من الموت ، ولا بد من لقائه ، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت ) .
إنه يعرض على خليفته من بعده في كلماته الخيرة المنهج الإيماني الذي يجب أن يتبعه إذا أراد النجاح في قيادة الأمة ، ونجاح الأمة في قيادة الآخرين . والذي لخصه في ستة ركائز إيمانية جامعة : ـ
الركيزة الأولى : أوقات العبادة
الركيزة الثانية : الاهتمام بالفرائض
الركيزة الثالثة : ترك القنوط
الركيزة الرابعة : الاغترار ومحقرات الذنوب
الركيزة الخامسة : الخوف والرجاء
الركيزة السادسة : استشعار ميزان الآخرة
وفي وصيته الأخيرة ( الركيزة السادسة ) يكشف له السر في ثقل الموازين يوم القيامة بأنه لا يكمن فقط باتباع الحق ، بل باستشعار ثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم ، هذا الثقل الذي يتمثل بالخوف من عدم القبول ، والخوف من الخاتمة ، والخوف من عذاب القبر ، والخوف من أهوال القيامة بما فيها السؤال والبعث والصراط والحساب والميزان والنار وغيرها ، هذا الاستشعار بثقل التبعة مع اتباعهم للحق ، هو الذي يثقل موازينهم يوم القيامة . بينما يظهر السر في خفة موازين الآخرين الذين اتبعوا الباطل بأنهم كانوا يستصغرون ذنوبهم ويستخفون بها ، فأدى ذلك إلى التجرؤ على فعل المزيد مما يغضب الله ، مما أدى إلى خفة موازينهم يوم القيامة ودخولهم من بعد ذلك في النار .
منقول من البريد