![]() |
وعجلت إليك ربي لترضي
وعجلت إليك ربي لترضي
عادل بن عبدالعزيز المحلاوي في رمضان يتسابق المتسابقون , ويتنافس المتنافسون , الطالبون لمرضاة ربهم ,لأنهم على يقين بفضل هذا الموسم , وأن اليوم السباق وغدا توزع الجوائز يوم تُوفى كل نفس ما كسبت ولقد جعلوا شعار كليم الرحمن\"وعجلت إليك ربي لترضي \" دافع لهم لتحقيق هذا المطلب , والوصول لهذه الغاية النفيسة , وذلك أن رسل الله وأنبيائه , هم أعرف الخلق بربهم وما يجب له عليهم , والمؤمنين متبعين لآثارهم (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90) وقال عز وجل)لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) ورمضان فرصة عظيمة للقرب من الله تعالى , والازدياد من الباقيات الصالحات, تذكر وأنت تعيش هذه الأيام المباركة كم من الخلائق تحت أطباق الثرى يود أحدهم أن لو صام معك وقام معك , فأري الله منك خيرا \" فليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل \" تفكر في كل رمضان مضى , وكل موسم عليك قد انقضى كيف تلحقك الحسرة في آخره , وتتمنى أن لو عاد إليك لتعمل صالحاً – فأنت في الأمنية - قال علي رضي الله \" إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة والآخرة ارتحلت مقبلة فكونوا من أبناء الدنيا ولا تكونوا من أبناء الآخرة \" يا من أدركت رمضان هذا ماذا أنت صانع به ؟ ألم ترى هذه الجموع الغفيرة وهي تؤم المساجد , وبيوت الرحمن , تحملهم خطى الرغبة , وصدق الطلب ليؤدوا الصلوات , ألم تحركك هذه الصور لتكون في ركبهم ؟ ألم تسمع آهات المذنبين , وبكاء الخاشعين , وهم يبكون بين يدي ربهم ؟ كيف بك إذا قُربوا وأبعدت , وأُتحفوا بالكرامات وسرت حسيراً كسيراً بألمك؟ يا صاحب القلب الطيب , يا من يرجو جنة عرضها السموات والأرض أبشر , فهذا موسم الخير هل , ووقت العودة حل , فاغتنمه قبل رحيله قُم في الدُّجَى واتْلُ الكتابَ ولا تَنمْ إلا كـنومـة حـائِرٍ وَلْهَـانِ فلـربّمـا تـأتـي المنيّـة بغتـةً فتُسَـاقُ من فُرُشٍ إلى أكفـانِ يا حبّذا عينـانِ في غَسَـقِ الدُّجَى من خشيـة الرحمـن بـاكيتانِ فـالله ينـزلُ كُـلّ آخـر ليـلةٍ لسمـائه الدنيـا بلا نُكْـرَانِ فيقـولُ هـل من سـائلٍ فأجيبَه فأنا القريبُ أجيبُ منْ نـادانِي اعلم يارعاك الله أن أكثر الناس حباً لك من أعانك على طاعة , ودلك على قربة , وأخذ بيدك إلى مرضاة ربك , ولا تجد هذا إلا عند أتباع الرسل عليهم السلام , وأرحم الخلق بالخلق , وسنسير سوياً هذه الأيام المباركة في سلسة تأخذ بيدك إلى كل خير , وترفع عن نفسك آثار الغفلة , وتعينك على الطاعة , فكن معنا |
\" وعجلت إليك رب لترضى\"
ذكريات تائب من أجمل أيام عمر المرء في حياته يوم التوبة والإنابة , وساعة الرجوع إلى الله تعالى , تلك الساعة المباركة التي يشعر فيها الإنسان أنه مخلوق جديد , يعيش الحياة الطيبة التي كان في بعد عنها وما أبلغ وصف الله للحالين (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122) . كثيراُ ما يظن المعرض عن ربه عز وجل أن اللذة في متع الحياة الدنيا الزائلة من غانية وكأس , ونظرة ومجلس أنس , يفعل فيه ما يشاء دون أن يمنعه أحد , فلا يرى الحياة إلا بهذه المتع , ولا يظن العيش إلا مع هذه الشهوات مع أنه لو أنصف من نفسه لأيقن أنها لذة وقتيه سرعان ما تنتهي عند انقضائها , فيشعر بعدها بالضيق ويصطلي بالألم وصدق الله و( ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ )(التوبة: من الآية118) تفنى اللذاذة ممـن ذاق صفوتها من الحرام ويبقى الأثمُ والعارُ تبقى عواقـب سـوء فى مغبتــها لا خير فى لذةٍ من بعدها النار لتصبح حياته حياةً التعاسة والضنك , والبؤس والحرمان , التي وصفها الله بأعظم وصف وأبينه فقال (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124) . جاء في قصة أبنت الملياردير السويسري التي ورثت من أبيها خمسة ألآف مليون دولار دون الممتلكات والجزر, تخيل هذه الأموال أليست في مقياسنا أنها السبيل الأعظم للسعادة , والطريق الموصل للراحة في الدنيا؟ ولكن انظر إلى النتيجة المفاجئة للجميع لقد وجدوها منتحرتاً قد قتلت نفسها . قد تقول أنها شبعت من متع الحياة وتمتع بها كيف شاءت ثم انتحرت , ولكن سيأخذ بك العجب كل مأخذ إن علمت أنها انتحرت وهي في أوائل الثلاثينات من عمر لقد أيقن هذا التائب أن الحياة لا تساوي شيئا بل هي سبب لكل مصيبة تحل به , فكم من معصية أورثت ندماً عظيما . تذكر أن معصية واحدة لأبيه آدم كانت سببا لخروجه من الجنة إلى دار الدنيا- دار الشقاء والعناء -, وأن إبليس لما ترك سجدة واحدة فقط طًُُُرد من رحمة الله ومن ملكوت السماء , فلا يأمن العبد أن ذنباً واحدا يحبسه الله به في نار الجحًيم . كم حرمت تلك اللذة المحرمة من عيش رغيد ,و أهبطت صاحبها من عز منيف , والواقع خير شاهد . لقد استرجع في لحظة صفاء ومحاسبة لنفسه أن كل ذنب قد مضى ذهبت لذاته والإثم حل في الصحيفة , والألم قد ملأ القلب ونظر إلى هذه الحياة الدنيا نظرة إنصاف فوجدها حياة قصيرة يعيش فيها المرء أياماً معدودات ثم يرحل عنها سريعاً ( وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)(الرعد: من الآية26) وأنه مهما طال عمره فمصيره مصير السابقين , وأقبل على نفسه منادياً : يا نَفسُ أينَ أبي، وأينَ أبو أبي، وأبُوهُ عدِّي لا أبَا لكِ واحْسُبِي عُدّي، فإنّي قد نَظَرْتُ، فلم أجدْ بينِي وبيْنَ أبيكِ آدَمَ مِنْ أبِ أفأنْتِ تَرْجينَ السّلامَة َ بَعدَهمْ، هَلاّ هُديتِ لسَمتِ وجهِ المَطلَبِ قَدْ ماتَ ما بينَ الجنينِ إلى الرَّضيعِ إلى الفطِيْمِ إلى الكبيرِ الأشيبِ فإلى متَى هذَا أرانِي لاعباً وأرَى َ المنِّية َ إنْ أتَتْ لم تلعَبِ لقد كانت هذه الأحاسيس وغيرها تحرك في نفسه الرغبة في التوبة , والمسارعة إلى الأوبة , وأن يسارع الخُطى قبل ندم في ساعة لا ينفع فيها الندم , فكان يقرر التوبة كثيراً – كما هو حال الكثير ممن يتمنون ترك الذنب - ً فتحل عزيمته النفس الأمارة بالسوء تارة , ووسوسة الشيطان تارة أخرى , وصديق السوء مراراً . حتى كانت ليلة صباحها أجمل صباح ومساءها أعقبه الله أعظم فلاح وقد أقبلت النفس على ربها إقبالا عظيماً , وجاءت الرغبة المباركة لترك كل ذنب يحول بينه وبين رحمة الله , ورأى أن العمر يمضي ولا يستطيع أن يُوقفه , وسنواته تتفلت من بين يديه , فعقد عزمه وجمع همته على رجوعه إلى ربه ومولاه المتفضل عليه بالنعم , فانطرح بين يديه باكياً مستغفراً نادماً , والدموع قد انهمرت من تلك العيون الطاهرة , فبكى ذنبه وخطيئته . فعاتب نفسه متذكراً ستر الله عليه في تلك السنوات التي ولو شاء ربه لفضحه . تذكر يوم كان مقيماً على الذنب ونعم الله تتوالى عليه , لم تمنع تلك الذنوب فضل الله عليه . ونظرة يمنة ويسرة فإذا أصحابه الذين كانوا معه قد خطفهم الموت ولو شاء الله لكان هو الميت . فأقبل على ربه نادما ,ومن ذنبه خائفاً , ولرحمته راجياً . فكانت أجمل أيام حياته , وساعة لن تمحو من ذاكرته . لقد كانت لحظات عظيمة يعجز اللسان عن التعبير عنها , وتقف الكلمات محبوسة عن ترجمة ما في ضميره من السرور والسعادة , ولكنه شعر بعدها بلذة الحياة , وطعم العيش ,وأنه كان في سكرة هوى . إنها التوبة يا أخوتاه السبيل إلى محبة الله(نَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(البقرة: من الآية222) وهي حياة العز والكرامة , وعيش السعداء الأحرار . فهل تلحق بهذا الركب ؟ عادل بن عبدالعزيز المحلاوي |
" وعجلت إليك رب لترضى"
اخـــــــــــــاف بعد التـــــــــــــوبة حب الطاعة والرغبة في الاستقامة هي أمنية كل مسلم , وما تلقى إنسانا وتحدثه عن فضائل الطاعات , وأهمية التوبة والإستقامة إلا قال لك ادع لي بالهداية , وربما فكر كثير في الإستقامة على شرع الله , ولكنه جعل أمامه عوائق وعقبات تحول بينه وبينها ولعلي هنا أفند بعضها حتى نصل أنا وأنت إلى ما يرضي عنا ربنا بإذن الله ونندفع إلى أعظم عبادة واجبة علينا وهي – التوبة – وتكون إزالة هذه الشبهات سببا لثباتنا عليها ">من أعظم الأمور التي تجعل المرء يخاف من الإقبال على التوبة " الخوف من الرجوع إلى الذنب , والعودة إلى الخطيئة وكم صد هذا الشعور من راغب بالتوبة ,بل ربما كان أعظم صاد عن التوبة خصوصاً وأن الكثير رأى صوراً لمن انحرف بعد استقامته , وضل بعد هدايته , فجاءه الخوف من أن يصبح مثلهم , فنقول لمثل هذا: لو أن هذا الشعور استقر في نفس كل راغب بالهداية لما استقام أحد لأن الشيطان يدخل أول ما يدخل على الراغبين في التوبة من هذا الباب . ولرد هذه الشبهة أقول : سر معي وكن منصفاً في هذا , كم تعرف أيها المبارك , وكم تعرفين أيتها المباركة ممن استقاموا ولم يرجعوا ولم يضلوا , وماتوا ولله الحمد على سبيل هذى . ثم عليك إحسان الظن بالله , فالله رحيم رحمن يعين عبده إذا صدق , ويثبته إذا أتى الأسباب المعينة على الثبات وان تبت وعدت للذنب فجدده مرات ومرات فكونك تخطئ وتتوب خيرا لك من ان لاتخطر التوبة منك على بال , وكن على يقين بتوفيق الله لك إن كنت كذلك , وسيأتي اليوم الذي تحب الطاعة وتنفر من المعصية . وهنا لطيفتان قلما يتفطن لها أحد : أولها : أن تأخير التوبة خطيئة قلما استغفر منها أحد كما أشار إلى هذا ابن القيم رحمه الله ثانيها : كم ستخسر بتأخير توبتك , كم سيسبقك غيرك للإزدياد من الطاعة من بر وأعمال صالحة وتزود من علم , وجهد في الدعوة , وغبر ذاك مما تتحسر عليه , ولكن أبشرك ان صدقت ستلحق بهم , وربما جاوزتهم ومنها :الخوف من لمز الناس فيقال لك :أأنت أكرم أم خير البشر –محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه – فلقد استهزئ بهم , ونالوا من الأذى ما نالوه ومع ذا لم يثنهم هذا الاستهزاء عن الثبات على دين الله , واعلم أن من يستهزئ بك اليوم سيكون من أعظم الناس لك تقديراً غدا , والواقع خير شاهد . يقول أحد المهتدين : استهزئ بي أصحابي أول استقامتي وسخروا بي , بل تواعدوا فيما بينهم على ردي إلى الغواية , ولكني استعنت بالله وثبت , فكانوا بعد ذلك من أشد الناس احتراماً لي وتقديراً , فادفع عنك هذا التوهم واسلك سبيل الراشدين ومنها : الخوف من ثقل الأوامر وعدم الصبر عن المعصية وربما جاء هذا الشعور عند البعض إذا جاءته الرغبة في التوبة , والبعد عن المعصية . فأقول لك : اتفق معك أخي على أن الطاعة تحتاج إلى صبر على أدائها , وأن المعصية تحتاج إلى صبر على البعد عنها , والمؤمن مثلك باليوم الآخر يعلم أن من آثر الراحة هنا ربما لحق التعب هناك في الآخرة , وأن من تعب هنا أدركته الراحة بإذن الله هناك , فأيهما تُؤثر ؟ ثم انظر إلى رحمة الله بهذه الشريعة السمحة في أوامرها التي بمقدور كل أحد الإتيان بها , وأما المعاصي فإنما الصبر عنها يصعب في أول الأمر ثم يستحيل بعد ذلك سهلاً ميسراً , وقد جعل الله لك مكان كل لذة محرمة مثلها من الحلال , وإن تأخرت عليك في الدنيا فسترى عوضها قريباً بإذن الله " والله مع الصابرين " ," والآخرة خير وأبقى" ومنها :الخوف من تبعات الذنوب السابقة . فكم من مسرف على نفسه بالذنب خارت قوته وضعفة عزيمته عن التوبة بسبب هذه الشبه , والظن أن ذنبه لا يُغفر , ولعمر الله إن هذا الشعور أعظم ذنبا من الذنب ذاته . فأي ذنب يتعاظم على العظيم وأي كبيرة لا يغفرها الغفور وأي جرم يصعب على الجواد إن الله غفور تواب , كريم ستير , يغفر الذنب , ويمحوا الخطيئة , متى ما تاب العبد بصدق , وأقبل عليه بإنابة ومنها : مخافة سقوط المنزلة عند الناس , وذهاب الجاه والشهرة . وربما كان هذا السبب أشد تعلقاً بعلية القوم ومن لهم جاه ومكانة وشهرة بين الناس , فيقال لمثل هذا إن ما عند الله خير وأعظم " ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه ", وكم من وجيه ومشهور ومشهورة تركوا كل هذا لله فأبدلهم الله في دنياهم ذكراً حسناً ونشاطاً مباركاً في الدعوة وخدمة الناس , والواقع خير شاهد , ثم إن هذه الشهرة عَرَض زائل سرعان ما يذهب أو يُذهب بصاحبها , فماذا تنفعه هذه الشهرة إذا قدم على الله صِفر اليدين خاوياً من الحسنات وصدق الله "وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ" (سـبأ:37) ومنها : خشية ذهاب الأصدقاء والخلان . فكم من صديق صده صديقه عن المسيرة في ركب الصالجين . أعرف شاباً استقام فترة ثم عاد إلى زملائه فجئته ناصحاً بتركهم فقال لي : لا أستطيع تركهم ثم ضعف في استقامته بعد فترة . فيقال لمثل هذا : أن نفسك أغلى ما تملك , وستموت وحدك , وتدخل قبرك وحدك , وتحاسب وحدك , وصديقك الذي لاينفعك لابد وأن يضرك , وتأمل في قول الله تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67) آلا تكفيك هذه الأية في الحذر من صديق السوء . وكن على يقين أن لو كان أصدقائك محبين لك لأعانوك على ذلك . أعرف شاباً استقام وكان له أصدقاء عندهم بعض التقصير فلقيت بعضهم فقال لي : والله فرحنا باستقامت فلان وشجعناه فحُمد فعلهم ,فأقول لك : يارعاك الله إن كانوا صادقين سيعونك حتى وان لم يستقيموا وابتعدت عنهم , وإن كانوا كاذبين في صداقتهم لك فأنت أكبر من أن تصاحب أُناس لايريدون لك الخير . هذه بعض الشبه والعقبات التي تحول بين كثير من المقصرين وبين التوبة , اقرئها أيها الناصح لنفسك وتدبرها علها تعينك على إزالة كل صاد لك عن الهداية , وانصح نفسك فهي أغلى ما تملك والحق بركب الصالحين |
(نايف وإبراهيم , كوكبان أفلا)
- حياة الطاعة وخاتمة الشهادة - الهداية نعمة من الله تعالى من أعظم المنن , وحب الطاعة لا يعدله حب , والتوفيق لفعل الخير منحة إلاهية لا تعدلها كنوز الدنيا , ونحسب أن الله تعالى قد وفق لهذا شابين من شباب هذا الزمان ممن عاشوا معنا , واختارهم الله لجواره وهم في ريعان شبابهم ,ويصدق فيهما قول أبو الحسن التهامي في رثائه لولده : ياكوكبا ما كان أقصـر عمـره وكذاك عمر كواكب الأسحـار وهلال أيام مضى لـم يستـدر بدرا ولم يمهـل لوقـت سـرار جاورت أعدائي وجـاور ربـه شتان بيـن جـواره وجـواري ولإن غيب الموت أشخاصهم عن أبصارنا إلا أننا لم ننسهم على مر الليالي والأيام - فا للهم اجمعنا بهم في دار لا فراق فيها - آمين . من أين أبدا مقالي هذا ؟ وعن أي شيء أتكلم ؟ هل أتحدث عن صدق الاستقامة ؟ أو أحكي جمال الأدب , وعظيم الحياء ؟ أم أنشر عبير الجد في طاعة المولى عز وجل ؟ (نايف وإبراهيم) شابان مستقيمان جعل الله لهما الحب في قلب كل من يعرفهم . من حفاظ كتاب الله , ومن خيرة شبابنا الصالحين , استقاما في سن مبكرة لم تغرهم دنياهم بزخرفها الزائل , ومتعها الحقيرة . أما (نايف) فقد ألتحق بالصحبة الطيبة وهو في المرحلة الثانوية (التوجيهي) فجد في حفظ القرآن وحفظه في فترة وجيزة , وأما( إبراهيم) فعجب عجاب في استقامته, التحق بصحبة الأخيار وهو في الصف الأول المتوسط (الإعدادي ) وصار معهم حتى أدركته المنية وهو في الثالث الثانوي (التوجيهي) ست سنوات هي في عمرِ أقرانه وولاتهم مرتع اللعب واللهو, أما هو فقد صرفها في الجد في مرضات الله تعالى , فكان لهما ما أرادا( حياة الطاعة وخاتمته الشهادة) . كانت العبادة سمت بارزة لهم , والجدية فيها يعرفها عنهم كل أقرانهم . يقول والد (إبراهيم) ما أعرف عنه إلا المسابقة للذهاب إلى المسجد , والتقدم في أول الوقت للصلاة ولذا عزم على إدراك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً اغتناماً لحديث " من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى ، كتب له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق" صحيح الترمذي فأدركها بفضل الله تعالى ثم بفضل همته العالية , وكان قد جعل له سجادة في غرفته ليصلي عليها الليل , يقول معلمه : تحدثت يوماً في احد الدروس عن صلاة الوتر وذكرت قول الإمام (أن من يداوم على ترك الوتر فهو رجل سوء) قال: فأمسك بي بعد الدرس وقال مستغرباً : وهل هناك مسلم يترك الوتر ؟ . عُرف عنه البكاء عند تلاوة القرآن أو سماعه - وهكذا هي القلوب الرقيقة - . حج مرتين على الرغم من صغر سنه إذ مات في الثامنة عشرة من عمره , ونوى الحج في عام وفاته لا حرمه الله أجر نيته , ولم تفته سنة الاعتكاف طيلة سنوات استقامته الست في عمره القصير . وكذا كان أخوه (نايف) - أنزل الله على قبريهما شآبيب الرحمة - فقد كان جاداً في العبادة , حريصاً على الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبان دراسته هناك ,مسابقاً للصلاة حريصاً على الصف الأول يعرف ذلك عنه إخوانه , لقد كانت الجدية ظاهرة عليهما في هذا الباب ولازلت أذكر(نايف ) وكأني أنظر إليه الآن وقد اتخذ ذلك المكان في زاوية من المسجد فترة اعتكافه , وقد ستره بستر رقيق ليخلو بربه عز وجل ما بين تلاوة وصلاة وذكر, وكان كثير الخلوة في ذلك المكان ولا يكاد يأكل معنا إلا ما يقيم به صلبه , كان يصلي أحياناً بإخوانه بعد صلاة التراويح وكأني أسمع صوته الشجي يرتل تلك الآيات والخشوع قد ملأ جوارحه,والبكاء والخشية في تلاوته لا تفارقه,فقد عُرف عنه ذلك . صلى ذات يوم بجماعة مسجد حيه وقرأ آيات من سورة الأعراف وبكى وأبكى الناس , وكثيرا ما كان يسأله إخوانه أين تصلي الليلة كي يصلون معه . يقول أحد جيرانه : كنت وأنا أدخل لمنزلي في ساعات الليل المتأخرة أمر بجوار غرفته فأسمعه يتلو الآيات بقراءة حزينة مترسلة فأتعجب من جمال تلاوته , وجَلَده على العبادة , ولقد وصف الله تلك النفوس الشريفة بقوله (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9) وبقوله (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:16) جعلهم الله ممن وُعِدوا بقوله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17) وكأنهم يصدق فيهم قول عبدالله بن المبارك عن صفة الخائفين : إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع لهم تحت الظلام وهم سجود أنين منه تنفرج الضلوع وخرس بالنهار لطول صمت عليهم من سكينتهم خشوع - مما تميزا به –رحمهما الله - بر الوالدين , فقد كان البر من أرجى أعمالهم وأحبها إلى قلوبهم وكانا يقوما برعاية الوالدين وطاعتهم , وإدخال السرور عليهم , وكم تحدث والداهم عن عجيب برهم بهم , وكذا إحسانهم لإخوانهم فقد اجمعت بيوتهم على حبهم حباً عظيماً - كان الصيام –وهو عبادة المخلصين- عبادة قد حُببت لهما , فلم يُعرف عنهما إلا المحافظة على صيام الاثنين والخميس والأيام البيض , ولا يفوتا صيام الأيام الفاضلة كعشر ذي الحجة ونحوها , لقد كان لجديتهم في العبادات الأثر العظيم في اغتنام الحياة في كل طاعة -أما القرآن الكريم فقد كان أحب شيء إليهما في الحياة قد جعلاه أنيسهم وجليسهم ,وقد رزقهم الله حفظه في فترة وجيزة , وكانت أوقاتهم كلها مصروفة له, لا تراهم في المسجد إلا القرآن معهما , وبين إخوانه لا يُعرفان إلا والمصحف بين أيديهما فقد رسمت صورتهما مع القرآن قد خُلط بدمائهما واستقر حبهم في قلوبهما , , يقول أحد إخوان (نايف) : لا أذكر أني دخلت عليه البيت يوماً من الأيام إلا والقرآن بين يديه , كنت أرى القرآن معه كل وقت وحين , وأذكر زاويته التي كان يجلس فيها منفرداُ بكتاب الله تعالى |
ويطيبُ قلب بالتلاوة حاضر ويطيب عيش عندها وممات
إني لأغبط في هناءة مؤمن قلباً تحرك جانبيه صلاة هذا الكمال إذا أريد بلوغه هذي النجاة إذا أريد نجاة هذي النفوس زكية ريانة هذي الوجوه من الهدى نضرات من أعمال البر الجليلة التي تميزا بها (إخفاء العمل) ومن ذلك : أن عجوزاً كانت تسكن لوحدها فكان إبراهيم يتعاهدها بالرعاية والإحسان , ويقوم بشؤونها ويحضر لها الطعام والشراب . كان حب الله والدار الآخرة مغروس في نفوسهم آثروه على الدنيا وملاذها , تقول (أم نايف) : حدثته يوماُ وقلت له : إن شاء الله تتعافى من مرضك ونزوجك – وهذا الكلام قبل فترة بسيطة من وفاته – فكان يقول : يا أماه أنا لن أتزوج من نساء الدنيا بل زوجاتي من الحور العين بإذن الله تعالى وهناك سمتان بارزتان لهذين الشابين – وما أكثر السمات المباركة فيهما- . هاتان السمتان هما ( الحياء الفذ , وحفظ اللسان وقلة الحديث ) أما الحياء لهما : فأحياناً من شدة حياء (نايف) لابد أن استفهم حديثه ويعيده لي مرة أخرى لشدة أدبه وحيائه , أما (إبراهيم) فغالباً ما كان يتحدث وهو مطأطأ الرأس من شدة حيائه , وقد أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل الحياء , وأثنى عليهم أعظم الثناء فقال "الحياء لا يأتي إلا بخير"رواه مسلم وقال " الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة "رواه الترمذي , وكانت صفته البارزة عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة رضي الله عنها كماعند البخاري ولقد كان لقلة حديثهم وعدم الخوض في فضلة الكلام أثر كبير في محبة إخوانهم لهم وتقريبهم إليهم . وبعد فهذا غيض من فيض لهذه السيرة العطرة , أتُرى كيف تكون خاتمة أصحابها ؟ اقرأها بعينك وعشها بقلبك علها أن تحرك فيك كامن الكسل عن الطاعة , وتطرد عنك التردد في التوبة , وترك التسويف الذي أهلكك ,وأن يرزقك الله مثل هذه الخاتمة وأفضل . كانت وفاتهم في شهر ربيع الثاني وكانت ميتتة عجيبة لا يمكن لأحد أن ينساها , فقبلها قد من الله عليهما بأداء الحج ذلك العام , وقبل وفاة (نايف) بأسبوعين رجع إلى مكة حرسها الله لأداء العمرة ومما يذكره إخوانه الذين كانوا معه في تلك الرحلة أنه طيلة الطريق أثناء رجوعه كان مستغرقاً في الاستغفار ولا يكلم أحداً إلا قليلا . يقول أحد إخوة(نايف) أتذكر ليلة وفاته غفر الله له : أنه لم ينم تلك الليلة بل قامها كلها مصلياً إلى الصباح , وأيقظ إخوته كلهم لصلاة الفجر وعاد ولم ينم بل كان يقرأ القرآن ضحى ذلك اليوم كله حتى عاتبته جدته في ذلك وكان يقابل هذا العتاب بابتسامة المتأدبين , وكان منشرح الصدر كما حدثني أحد الإخوة الذين اتصل به بعد فجر ذلك اليوم , أما (إبراهيم ) فقد قال لي والده : رأيته آخر ما رأيته وهو يتوضأ للصلاة ثم يخرج متطهراُ , كانت وفاتهم يوم جمعة وقد استعدا للذهاب إلى القرية للصلاة بالناس صلاة الجمعة وكان(نايف) الخطيب و( وإبراهيم)مرافقا له ومعه بعض الإعلانات لمحاضرة لتوزيعها هناك , وقدر الله عليهم ذلك الحادث الأليم قبل الوصول إلى المسجد بمسافة قصيرة وينتقلا إلى جوار الكريم سبحانه وتعالى في يوم جمعة وفي أشرف عمل – الدعوة إلى الله تعالى- ,وعلى أشرف حال –متطهرين متطيبين - , قاصدين عبادة عظيمة – صلاة الجمعة والخطبة في الناس – وصدق الله ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:100) آلا ما أشرفها من ميتتة , وما أعظمها من خاتمة , وانظر كيف جمع الله لهم الخير بحذافيره . جاء فقد روى الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر. قال الألباني في أحكام الجنائز: فالحديث بمجموع طرقه حَسَنٌ أو صحيح. وفي الحديث أيضا أِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ ، فَإِنَّهُ فِي صَلاةٍ ) رواه أبو داود (562) وصححه الألباني في صحيح أبي داود . فنحسبهم أنهم في حال صلاة من حين خروجهم من بيوتهم . مع واجب الدعوة في مشوارهم هذا , وأعمال البر القريبة التي سبقت ميتتهما فما أعظمها من خاتمة , وأحسنها من عاقبه , وأشهد وقد كنت فيمن غسلهما أن كل واحد منهما قد رفع إصبع السبابة علامة التوحيد فرحمهم الله رحمة واسعة ولقد أكرمهما الله برؤى ومنامات بعد موتهما, والمؤمن تسره الرؤيا وهي من المبشرات فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا . يراها العبد الصالح أو ترى له " , وقد جاءت المبشرات لهما في رؤى كثيرة يقول أحد إخوة نايف : بكيت عليه أول خمسة أيام من رمضان بكاء كثيرا فرأيته في منامي يقول لي : لا تبكي علي يا أخي فوالله إني لفي عداد الشهداء ومقدمتهم وتقول أم إبراهيم من الرؤى التي رأيتها فيه أنه جالس بجوار نهر جار – مما يدل على جريان عمله – بإذن الله تعالى . دروس وعبر من هذه السيرة المباركة : المؤمن يبادر عمره وحياته , فلما ينتظرا (نايف وإبراهيم ) أن يكبرا ثم يستقيما , كما هو حال الكثير من الشباب الذين يُسوفون حتى ربما أدركهم الموت , وكم نعرف ممن مات في سن الشباب , بل هم ماتا في هذا السن . فضل الاستقامة في سن الشباب والأحاديث في ذلك كثيرة , ( وليس من تقدم كمن تأخر, وليس من سارع كمن تباطأ) فبادر وقتك . الصدق في الاستقامة من أعظم أسباب حسن الخاتمة , يظهر هذا جلياً في خاتمتهم , نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا من الأشياء البارزة في حياة الصالحين , دعاء بعضهم لبعض , وهذا ما أعرفه عن إخوان (نايف وإبراهيم ) من الأخيار أنهم كثيري الدعاء لهم , يقول أحدهم : كثيراً ما أدعو لهم عندما أدعو لنفسي ولا أذكر أني دخلت المقبرة يوماً إلا خصصتهما بالدعاء ,فهل حرصت على الصحبة الطيبة , ومن سيدعو لك بعد موتك ؟ اللهم اغفر ل (نايف وإبراهيم ) وارفع درجتهما في المهدين واجمعنا بهم قي جنات النعيم , نحن ووالدينا والمسلمين آمين |
الساعة الآن 1:43 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
TranZ By World 4Arab