منتديات موقع بشارة خير

منتديات موقع بشارة خير (https://www.22522.com/vb/index.php)
-   منتدى القصة (https://www.22522.com/vb/forumdisplay.php?f=65)
-   -   رواية سجين يهرب(غياث ) (https://www.22522.com/vb/showthread.php?t=257565)

الوديعه 2011-09-19 12:40 PM

رواية سجين يهرب(غياث )
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
هذة الروايا اعجبتني جدا وحبيت أنقلها لكموهذا الجزء الأول
الممرة"
قرية صغيرة ذات بيوت صغيرة متلاصقة وسخة
تقع في قعر العراق في الشمال بعيداً عن بغداد مسيرة يومين للماشي على قدميه
في أحد دروب الممرة الضيقة يسمع وقع أقدام متعثرة غير منتظمة
الوقت ليلاً وبسبب من ضوء القمر الشحيح انطرح على الأرض ظلال شخص يمشي مترنحاً وعندما لفه الدرب إلى باحة مغلقة على جنباتها عدة أبواب مغلقة
تبينت هيئته واضحة تحت شحوب القمر شاب في السابعة والعشرين بثياب بالية وطاقية فقدت لونها الأصلي متوسط القامة متين العضلات حزين الملامح،بعينين نصف مغمضتين كان سكراناً إلى درجة متوسطة ثقيل الخطى يغطي زوايا فمه المليح زبد من اللعاب وقف الشاب أمام أحد الأبواب المغلقة وطرقه كان البيت يدل على مستوى ساكينه بيت صغير لصياد فقير
بعد فترة فتح الباب وأطلًت منه وجه امرأة مُسنًة،تمسك خمارها على وجهها،فلما عرفت في الشاب ولدها الوحيد تركت خمارها يسقط عن وجهها وهتفت في حزن وألم:
- أنت سكران يا ولدي؟!
أجابها الشاب بصبر نافذ:
- أريد أن أنام وقبل أن يدفع الباب للدخول أغلقته بسرعة فصاح الشاب:
- أفتحي ياأماه أنا لا أقوى على الوقوف!
ومن وراء الباب أجابته:
- سيرتك السيئة يا ولدي سترديك وسيطردك أبوك من البيت
- افتحي الباب،ولن يعلم أبي إنه نائم
- لن أدعك تدخل حتى أخبره
- لا تخبريه بشيء إن علم بحالي فسيطردني إلى الأبد لقد هددني بذلك
- لقد أقسم عليً بأن أوقظه حال وصولك
- الويل لي!
كان يتكلم بلسان ثقيل
وزال عنه شيء من غبش السكر عندما سمع وقع أقدام والده يتجه نحو الباب
وتوقع حدوث أسوأ الأشياء فظل واقفاً مستسلماً لما سيحدث إنه يخشى هذا الكهل فقد هدده مراراً
وفتح الباب لتخرج منه عصا غليظة، وتهوي على رأسه فيسقط مرعوبا متألماَ وجلس على الأرض يتحسس رأسه ورفع عينيه فصدم بمرأى والده الذي خلت ملامحه من أي بشائر التسامح كانت لحيته البيضاء المستطيلة ترتجف بارتجاف فكه الأسفل وفي عينيه نظرات الغضب والحسرة ونهره الشيخ بغلظة:
- لماذا جئت؟أجاب وهو يتحسس الكرة الصغيرة التي نبتت في رأسه:
- أريد أن أنام
- ليس عندي مكان لك بعد اليوم!
فسأل الشاب في لهفة:
- وأين أذهب؟!
- إلى أي أرض تعجبك
- اعف عني يا أبتاه وأعدك أني
- اصمت لقد سئمت وعودك الكاذبة عليك الآن أن تتدبر شئونك وقال الشاب بخجل:
- دعني أنام هذه الليلة فقط!
وقالت أم الشاب التي كانت تقف خلف زوجها:
- دعه ينام هذه الليلة يا عبدالمغيث ويرحل في الصباح؟
- رد الكهل بحزم:
- لن يتعدى هذه العتبة اعطني صرة ثيابه وبعين دامعة ناولته المرأة صرة كانت في يدها فأخذها وقذف بها في وجه ولده الوحيد وهتف محنقاً:
- هذه ثيابك يا غياث لست ولدي ولست والداً لك !
وتناول الشاب الصرة وقام من على الأرض،وهم بأن يلقي بنفسه على والده ويقبل قدميه رجاء عفوه،لكن ما فعله الشيخ قطع عليه آماله، فقد قبض ثوبه من جهة صدره وهزًه بعنف وكأنه طفل وصاح في وجهه:
- اسمع إذا رأيتك في هذا المكان مرة أخرى سأهشم رأسك ثم طرحه على الأرض ودخل مغلقاً الباب وراءه لفترة جمد الشاب في مكانه ثم تحرك بتراخ
لم يدر إلى أين سيذهب، فهام على وجهه مدة حتى صار في ظاهر القرية ثم وجد نفسه يسير جنوباً بمحاذاة نهر دجلة متجهاً إلى بغداد
كان يلزمه مسيرة يومين ليصل إلى عاصمة الخلافة لكنه مشى متباطئاً بغير حرص على الوصول كان يجر رجليه جراً!
يتبع ...
منقول


زهور.. 2011-09-20 1:50 AM

اكملي ......
موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

الوديعه 2011-09-20 3:00 PM

الفصل الثاني/ السجين يهرب غياث
 
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الفصل الثاني







العذاب00
الضيق000
الأماني العراض التي افترسها الفشل00
كل ذلك انحرف بمسيرته00وأهلك القناعة بداخله ، وأوقد في نفسه رغبة مسعورة لتحقيق ما يريد!!
تأمل حاله المزرية00بطالة طاغية00فقرٌ مقدع00أبوه الصياد كهلٌ متعبٌ00حطمته الأيام ، ونهشه الفقر والحاجة المستديمة للمال ، فأصبح يذكر الموت أكثر من ذكره ملذات الحياة00 لكنه مع ذلك زاهدٌ عفيفٌ ، لم يسأل أحداً يوماً فلساً واحداً0وعمل مع والده في صباه كثيراً00 أصبح حواتاً ماهراً يصيد السمك بحربة الصيد مع أي جزء يشاء ، ثم عمل حمَّالاً00ثم مزارعاً00ثم حرفياً0
لكنه ولد بنفس طموحه00إلى المجد و الجاه00 إلى الصيت الذائع ، وتراكم في نفسه اعتقاد راسخ بأن مشكلته و سعادته في المال00 فسعى للبحث عن الثراء بوحشية!
مارس التجارة ففشل،ونفد كل مامعه من نقود00 جرَّب القمار فلازمته الخسارة الدائمة00ثم عمد إلى موهبته الأصلية00الشعر00 استعار جبة وعمامة عريضة00 ودخل على الولاة وكبار القادة ، ونظم القصائد في المديح والتملق،فلم يظفر إلا بالقليل،فترك الشعر وعاد إلى القمار فخسرمن جديد00 وأرهقته الديون وتراكم عليه البؤس وقادته الأحزان إلى الخمرة و أقداح النبيذ0ومع الأيام القاسية انحرف تفكيره فظن أنه خُلق حقوداً شريراَ000فصار لصاً00 يسطو على المنازل00 وشُكي إلى والده ، فأمسكه الكهل وربطه إلى جذع نخلة في صحن الدار وجلده حتى بال على نفسه وخر مغشياً عليه0
وعاد إلى السرقة من جديد فقبض عليه وسجن وجلد في سجن الوالي ببغداد ، وكادت يده أن تقطع ذات مرة!
وهدده والده بالبراءة منه ثم طرده أخيراً0
بات يمشي حتى منتصف الليل وأدركه التعب فجلس متكئاً على صرة ثيابه، ثم استلقى على رمل ناعم وبقي يهذي بكلام غير مفهوم،ثم غط في نوم عميق0
نام طويلاً في مكانه ذاك حتى أيقظته شمس الضحى الساخنة،فقام وتمطى ونفض ثيابه والعرق يغطي جسمه المتين ، وغمس وجهه في مياه دجلة ، وأروى عطشه ، ثم استلقى من جديد تحت ظل شجرة ، وعاود النوم حتى انحسر عنه الظل فتحول إلى موضع الظل ، ونام ولم يستيقظ إلا منتصف العصر!
استيقظ والجوع والعطش يستبدان به فقام و واصل مسيره بعدما شرب من دجلة الكثير00
وصل إلى إحدى القرى الواقعة على النهر ، وتجول في بعض طرقها وطلب من بعض أصحاب الحوانيت إقراضه شيئاً من الطعام،فلم يعطه أحدٌ شيئا ً، فمنظره الكئيب ، وشعره المشعث ونظراته القاسية لم تكن تبعث على الطمأنينة ، وألح في المسألة على أحدهم فنهره وطرده فخرج غاضباً وتمنى لو يحرق القرية على من فيها0
ومضى مبتعداً عن القرية متوكئاً على غصن عريض 00
صادف أحد الصيادين راكباَحماره، ومعه سلة فيها سمك فسأله عن بغداد فأخبره أنها على مسيرة نهار كامل من هنا00تأمل غياث بن عبد المغيث الرجل وحماره بنظرات شرسة أثارت ريبة الصياد، وقبل أن ينخس حماره ليبتعد أهوى غياث بهراوته على مؤخرة رأسه فسقط عن ظهر الحمار مغشياً عليه00!
وبهدوء بحث غياث في ثيابه وسلب ما معه من المال وركب الحمار ومضى0
عندما حل المساء توقف على الشاطئ00 كانت الغيوم قد حجبت ضوء القمر،فعم الظلام الدامي أرجاء المكان00 وأشعل نارا و شوى بعض ما في السلة من السمك00 وجلس يأكل بشهية مفتوحة حتى شبع وعاد إلى نشاطه ، وتمنى في هذه اللحظة قدحاً من النبيذ يذهب به عن الدنيا0
كان قد بقي على بغداد مسافة ليست بالقصيرة، ومع أنه كان نشطاً إلا أنه آثر أن يكمل مسيرته في الصباح00لم يذهب إلى بغداد إلا مرتين في حياته00
الأولى وهو صبي في صحبة والده00 والثانية عندما حُمل مكبلاً وجلد هناك لقيامه بالسرقة0
كم هالته المدينة الكبيرة العامرة00 التي تعج بمئات الآلاف من البشر من جميع الأنحاء00في بغداد يسهل التخفي،وتكثر الأوكار الآمنة،والأرزاق والجواري وأطيب الخمور00 وهناك سيجد من يعاضده في أعمال الليل وغزوات المنازل!
ظل مستسلماً لخواطره حتى اجتذب سمعه أنين خافت!!
تلفت حوله فلم يرَ شيئاً فعزى ذلك إلى توهمه00لكن الصوت عاد ثانية، وتتبعه غياث00 كان أنيناً لرجل موجوع أو مصاب00 أرخى سمعه مرة ثالثة ليجدالصوت منبعث من خلف كثيب صغير قريب منه0
فقام وذهب إلى الكثيب ليجد رجلاً في نحو الخامسة والأربعين ملطخاً بالدماء، وفي كتفه جرح بدم يابس ، كان واضحاً أنه تعرض لعراك شديد00 فثيابه ممزقة00 ورأسه حاسر مشعث الشعر 00 وكان يمسك بطنه بإحدى يديه0
ولإنقاذه حمله غياث بين يديه وأنزله إلى جانب النهر ورش وجهه بالماء وجعل يضرب خديه بخشونة حتى استفاق00وفتح الرجل عينيه وأدارهما في غياث ثم في الليل برعب وريبة وسأل بوجل:
- أين أنا؟وأين الجمل؟!
فأجاب غياث:
- أنت هنا على شاطئ النهر0
- والجمل؟!
- لم أرَ جملاً هنا!
ثم قال يطمئنه:
-لا بأس عليك، جرحك بسيط وسيندمل سريعاً0ولم يعلق الرجل بغير الأنين0 فظهرت خشونة غياث وقال في ضجر:
- أنت تئن كالثكالى00 كأنك00ولم يكمل عبارته لأن الرجل أبعد يده عن بطنه فبان تحتها جرح غائر طويل بطول الكف!! فصاح غياث:
- ويحك يا رجل 00أنت تحتاج إلى طبيب!!
فقال الرجل يائساً:
- أنا أحتاج إلى كفن0وسأله غياث بما يشبه الزعيق:
-من أنت؟ ومن أين جئت؟!
فقال بيأسه الأول:
-سأخبرك بماتريد00 لكن أرفعني قليلاً عن الأرض00واستجاب له غياث رافعاً ظهره عن الأرض فأدار الرجل عينيه المرعوبتين،ومسح بهما أرجاء المكان، وقال وهو يشير بيده التي ليست على الجرح إلى جهة من البر:
-هناك00 ستجد الجمل هناك00 لقد رأيته يذهب من هذه الناحية عندما سقطت من على ظهره0وذهب غياث إلى حيث أشار الرجلُ الجريحُ ليبحث عن جمله00 تجول قليلاً في الفلاة المظُلمة وهم بالرجوع وهو يشتم الرجل:
-قتله الله00 لم تنته مصيبتي حتى أبلى به!!
لكنه وجد الجمل ملتفاً بالظلام باركاً على الأرض00 يجتر ما أكله في النهار00 هدر الجمل عندما رآه، فاقتاده غياث إلى الرجل الذي أخذه الإعياء فنام00
قذف غياث إلى النار ببعض الحطب فارتفع اللهب متراقصاً00مضيئاً المكان00 تأمل غياث الرجل وبدا له أنه يعرفه وحاول أن يتذكر00كان دقيق الملامح00مهزولاً00 على جانب صدغه الأيسر أثر جرح قديم،منعه بعض شعر اللحية من الظهور00 وعندما تذكره هزًّ رأسه!
و بهدوء وحذر تحسس ثيابه وجيوبه، فلم يجد غير بضعة دراهم، فسلبها و وضعها في جيبه00 و راعه أن جسد الرجل كان يفوربالحرارة!
وأحس الرجل به فاستيقظ وتكلم وهو يلهث:
-هل جئت؟
-نعم00 وقد وجدت جملك0
-إذاً انظر هناك00 ستجد قارباً كبيراً00 انزل به أحمال الجمل00ولنصعد إليه ونعبر إلى الضفة الأخرى من النهر، فهناك بقايا نخل وبيت صغير مهجور00هيا بسرعة !
-لماذا لا نبيت الليلة هنا، ونمضي إلى البيت في الصباح؟!
-لا00لابد أن نكون هناك حالاً0
-تبدو مستعجلاً00 هل هناك شيء؟!
-ستعرف فيما بعد00هيا بسرعة00بسهولة وجد غياث القارب 00 ووجده قديماً متهالكاً00 فحمل الرجل إليه وأبقاه مستلقياً على ظهره في قاع القارب، ويده لا تفارق بطنه،وقد عاد إليه الأنين0
وعمد إلى أحمال الجمل00 فوجدها خرجين متوسطين معلقين على جانبي الجمل00 وكانا ثقيلين محكمي الإغلاق والربط00حملهما إلى القارب ولم ينسَ صرة ثيابه00 وحل قيود الجمل والحمار وترك لهما الحرية00 وبدأ يجدف مجتازاً النهر الهادر لكي يصل إلي الجهة الغربية00ظل يجدف حتى صاح الرجل فجأة:
- الماء!! الماء سيغمر القارب؟!
كانا في منتصف النهر، وبحث غياث في القارب فلم يجد مصدر الماء بسبب الظلام00 فجعل يتحسس بطن القارب بيديه حتى وجده فصاح بغضب:
-إنه مثقوب! كيف لم تخبرني أنه مثقوب؟!
-لم أكن أعلم00 وإلا لما تركتك تبحر به00 ربماحطمه الجمل!
لم يفهم غياث شيئاً وظل يجدف بانفعال في سباق مع المياه المتدفقة التي أبطئت بسرعة القارب، فترك غياث المجاديف، وجعل ينزح المياه من القارب بدلو وجده00ومع الوقت عجز عن السيطرة على الماء فجلس يستريح ويدلك زنديه القويين00فهتف به الرجل ملهوفاً:
-لاتتوقف00 أنا لا أستطيع النهوض وستغرقني المياه و أنا مستلقٍ قبل أن يغوص القارب!
فقال غياث في برم:
-قبحك الله00 وماذا أصنع بك؟ كل ما أستطيع فعله أن أخفف من حمل القارب حتى يسهل التجديف00وقذف بالصناديق والشباك والحبال إلى جوف النهر00
وتناول احد الخرجين بسرعة وقذف به إلى الماء 00 ومد يده إلى الثاني فصاح به الرجل الجريح:
-لا 000إنه الذهب !!؟كانت صيحته منكرة00 جعلت شعر غياث يقف!
وضم الرجل الخرج الثاني إلى صدره كأنما يريد حمايت هو ،خاطب غياث بغضب وأسى:
-لماذا قذفت به يا أحمق؟!فقال غياث بدهشة:
-أنت لم تخبرني أنه ذهب00 لقد ظننته من سائر المتاع!
وعاد ينزح المياه من القارب بالدلو00 في صراع مع النهر ثم يجدف وهو ينقل بصره مابين قعر القارب، وصفحة النهرالداكنة المخيفة00
ثم حانت منه التفاتة إلى الرجل فوجده يذرف دموعاً غزاراً00 كان الشعور بالعجز والخسارة قد غلبه00ثم سمعه غياث يهذي:
-طعنت وقاتلت من أجله00وهاأنذا أخسر نصفه00 عذبك الله يا عدي كما عذبتني!
بصعوبة وصلوا إلى الضفة الأخرى من النهر، وحمل غياث الرجل إلى حيث يوجد النخيل والبيت00وكان النخيل قليلاً00متقارباً و خاوياً00 وبداخله قامت حجرتان متداعيتان من الطين وأمامهما عريش صغير من جريد النخل0
وضع غياث الرجل على الأرض0 لكنه صاح:
-بالداخل00 بداخل الغرفة فلا طاقة لي بالبرد!
كان الجو معتدلاً00لكن الحمى كانت تفترس الرجل00فحمله غياث إلى الداخل وهو متشبث بالخرج المتبقي وأنزله في الحجرة المظلمة وهويئن00 ويهتف لاهثاً:
-نار 00أوقد ناراً00 الجليد يكاد يقتلني00 أنا محموم!
ثم غاب عن رشده، وعاد إلى الهذيان وإلى شتيمة عدي00 وأشخاص أخرين00حنظلة00بكرة بن مرة00 زليط00
وسقط الخرج من يده محدثاً صوتاً أثار فضول غياث الذي قام وجمع بعض الحطب وأشعل ناراً أضاءت أركان الحجرة00 ثم عمد إلى الخرج فتناوله وفتحه00 ليطلق صيحة مكتومة عندما وجده يكاد يفيض بالذهب الخالص...!



الوديعه 2011-09-20 3:18 PM

بسم الله الرحمن الرحيم
الذهب بغيته00
شرط سعادته00
ابتسمت له الدنيا فجأة!
ارتمت الثروة والمجد تحت قدميه بسهولة00هذا المال غنيمة باردة سيناله بلا مخاطرات ولامتاعب00فالسرقة مهنته00 والرجل الجريح عاجز لايكاد يقوى على الحراك، وليس هناك رقيب ولا شرط00فليأخذ هذا الخرج الممتلئ وليرجع لاستخراج الثاني بعد حين00 ليقتنص الفرصة ولينهي شقائه إلى الأبد00 وسيجد بعدها مئة جواب لمن يسأله عن ثرائه المفاجئ!
وأحس بتصاعد أنفاسه وتلفت00ثم تفكر ملياً وأعاد المال إلى مكانه00ووجد نفسه متردداً في سلب الرجل ، مع أنه سلبه قبل قليل بعض الدريهمات!

حرك النار فتصاعد لهبها00 تأمل هذه الثروة التي تربض عند قدميه كالكلب الوفي00 ماذا لو أخذها ولاذ بالفرار وترك الرجل لمصيره يموت بهدوء00 لقمة سائغة00فهو يسطو على المنازل ويقتحم الأخطار من أجل أشياء قليلة تضيع منه في صباح اليوم الذي يليه00 والآن وجد ما يكفيه مدى عمره كله ، فلماذا يترك هذه السعادة القابعة في حقيبة هذا الجريح العاجز تضيع منه؟00إنه في الغالب سيموت، فقد تلقى في جوفه طعنة نافذة00 وهكذا لن يثقل كاهله بقتله00 فلا مجال للتقاعس والوجل؟!

وتناول الخرجا لثقيل مرة ثانية00 لكن شكوكه عادت فأرجع الخرج إلى مكانه00

لقد علمته التجارب أن يكون حذراً ويفكر في كل شيء قبل أن يقدم على عمل جريء كهذا00
وقد تحصلت عنده قناعة تامة أن لهذا الذهب الوافر طلاباً غيره ، وأنهم لابد أن يتتبعوه أينما ذهب00
فما زالت تطن في أذنه كلمات الرجل وهو يهذي ويقول: إنه طعن من أجل الذهب ثم خسر نصفه0
وتلك الأسماء التي كان يرددها00حنظلة00زليط00عدي00 ولاشك أن الرجل لص مثله00 فقد رآه يوماً أو شخصاً يشبهه! والأشخاص الذين ذكرهم هم أعوانه أو أعداؤه0

ولهذا قرر أن يحتال على الرجل ليعرف قصته، ويكون ذلك أدعى للأمن وأخذ الحيطة00 وخطرت له فكرة00

أخذ الخرج محاذراً أن تحدث محتوياته صوتاً وحفر حفرةً صغيرةً في جهة من الحجرة، ودفن الخرج فيها و غطاه بطبقة رقيقة من التراب،ووضع صرة ثيابه فوقها وسوى الموضع ، ثم قام إلى الخارج ورفع رأسه وملأ رئتيه من الهواء الندي ، وجاء ببعض الحطب وقذف به إلى النار التي كادت تخمد ، وعلى ضوئها طفق يتفقد محتويات الغرفة00 ووجد شِباك صيدٍ قديمةٍ وسلال فارغة ، وحبال وثياب وخرق بالية ، ووجد صندوقاً به سيف صديء ، ورماح وسماح ، وكان الغبار يغطي كل شيء0
ثم ترك الحجرة بعدما ألقى على قدمي الرجل المرتعش بعض الأغطية00 وجمع المزيد من الحطب والأخشاب ، ثم عاد ليجد الرجل قد استيقظ و وجده يكاد يجن فرقاً على حقيبته، وعندما وقعت عيناه على غياث سأله بفظاظة وريبة:

-أين أموالي؟

-هل تقصد الخرج؟

-نعم00 هل رأيت أحداً جاء إلى هنا و أخذها؟

-كيف يأتي أحد ليسرقها ولا أمنعه؟!

-إذاً قل لي أين ذهبت؟

-لقداستوليت عليها أنا0

-أنت؟

-نعم0

وتوقع غياث أن يلعنه الرجل ويغضب ويحاول القيام أو يقذفه بأي شيء00 لكن شيئاً من ذلك لم يحدث!! بل تغيرت سحنته، وتكدرت ملامحه إلى هيئة مهزومة ساذجة00 وحزينة بشكل كاد يبعث الأسى في نفسه!!

لقد أُتي من مأمنه، وسُرق من الشخص الذي كان يظن أنه منقذه0 وعاد يستفسر بطريقة أراد لها أنتكون ثابتة متوعدة:

-بأي حق تأخذ مالاً ليس لك؟!

-وليس لك أنت أيضاً!

كيف تقول هذا 00 إنها أموالي؟!

رد غياث مصطنعاً الثقة:

-لقد عرفتك ساعة نظرت إليك00 لقد أخذت هذه الأموال ظلماً وعدواناً00 وليست هذه أولى أعمالك فأنا أعرف عنك الكثير!

لم يكن غياث متأكداً مما يقول، وكان مستعداً لن يتنازل عن شكوكه لو استمر الرجل في إنكاره غير أن استسلام الرجل السريع أدهشه00 حيث قال الرجل مناوراً:

-أنت لا تعي شيئاً مما تقول00 أنا اسمي شهاب الدين وأنا تاجر من تجار حلب وقد داهمني اللصوص عندما كنت00

-بل أنت لص من لصوص العراق واسمك مروان!

وتقلبت عينا الرجل مبهوتاً00 وحدج غياث بنظراته المرعوبة المدهوشة في صمت و حنى رأسه، وجعل يتحسس جرحه بيده الملطخة بالدماء اليابسة وخاطبه غياث:

-لقد رأيتك أول مرة في سجن الوالي من أجل جبن سرقته وتدعي الآن أنك تاجر وأن لك أمولاً!؟

واستقام الرجل في جلسته لاهثاً بعدما تجلى عنه الكثير من وطأة الحمى،وأسند ظهره إلى الجدار وقال بصوت هادئ مستسلماً:

-إذاً فأنت تعرفني يا فتى؟

فقال غياث معلناً عن نفسه بصراحة:

نعم أعرفك00 فجميعنا أصحاب مهنة واحدة00 وعندما كنت تهذي فهمت من كلامك ما يمكن أن تكون وقد سمعتك تهذي باسم حنظلة وعدي وبكر بن مرة وزليط0

وعند ذكر عدي تمتم00"مروان"وهو يخاطب نفسه:

-عذًبك الله يا عدي00

ثم قال لغياث بسذاجة ناسياً عجزة:

-ستشاركني هذه الغنيمة 00سأهبك نصف المال مقابل أن تساعدني00؟

فابتسم غياث مستغرباً00 كيف أصبح هذا لصاً فاتكاً ثم قال بمكرٍ مستجراً مروان إلى الكلام:

-حسناً00 وكيف أساعدك؟

-تركبني على ظهر الجمل وتدفع بي إلى سبيل النجاة0

-سأفعل00ولا أريد نصف المال،فهذا كسب لك وحدك، و إنني من القناعة بحيث يكفيني القليل إذا أخبرتني كيف سلبتَ المال00 و لك أن أساعدك؟

-ومن يضمن لي أنك لا تخونني؟

-لا خيار لك00فأنت عاجز00 وإذا لم تستجب لي قمت وتركتك!

- والذهب؟

رد غياث محاولاً كسب ثقة مروان:

-الذهب لك إلا ما تصدقت به عليً،فما كنت لآخذ ما حصلت أنت عليه بجهدك00

ورفع إلى فم مروان قدحاً كان قد ملأه من النهر00 فشرب وقال:

-سأحكي لك0

وسكت برهة يتحسس جرحه ثم قال بنكد:

-هذا المال لتاجر ثري، يسكن بغداد وهو من أهل فلسطين يقال له ذاهب المقدسي، وكان متصلاً بالخلفاء والولاة وقد جمع من الأموال الكثير وكانت له ضياع ودور وعقار0

وقد وشى به بعضهم عند الخليفة فجفاه وعنَّفه ، وأظهر له العداوة فضاقت عليه الدنيا وكره بغداد وعاف المقام فيها، واعتزم الرحيل إلى بلاده، والتحول إلى موطنه الأصلي فلسطين فأرسل أولاده وأسرته إلى هناك مع قليل من المال على أن يلحق بهم بعد أشهر0

وطفق يبيع ضياعه وعقاره، وكل مايملك واشترى هذا الذهب الذي رأيته، وحمل أمتعته وأمواله على بعض الجمال00 واستأجرخمسة عشر فارساً لحراسته مع خمسة من عبيده0

وكان من أصدقاء المقدسي رجل يحقد عليه ويحسده اسمه حنظلة ، وكانت قد جرت بينهما المعرفة في مجلس الخليفة ولم يكن ذاهب يخفي عن حنظلة شيئاً من أموره0 فجمع حنظلة تسعة من الفتاك وانضممت أنا إليهم مع أخ لي ، واتفقنا على أن نستولي على الأموال ونهاجم الرجال ليلاً00 ولم نكن على قلب واحد ولكن جمعتنا حمرة الذهب0

وكان المقدسي صاحب حيطة وتدبير، فلم يخبر أحداً بمسيره ولا بما تحمله جماله00 ولم يكن يشك في إخلاص حنظلة، لذا علمنا كل شيء وتيسر لنا رصد الرجال ومتابعتهم 00 و اختبأنا لهم ليلة البارحة في بعض الطريق ، ثم انقضضنا عليهم متلثمين ، كانوا أشد منا قوةً و أكثر عدداً لكن مفاجئتنا لهم ساعدتنا على غلبتهم فقاتلناهم قتالاً شديداً بالنبال والسيوف وقد أخفى زعيمنا حنظلة نفسه ، فلما رأى كفة القتال تسير لصالحنا انضم إلينا 00
وبدا لي أنه لن ينجو من رجال المقدسي أحد ، بينما لم يقتلْ منا سوى أربعة ، وفرَّ بقية الفرسان إلى بعض الصخور طلباَّ للنجاة فطاردهم رجالنا لإفنائهم وكان هذا رأي حنظلة حتى لا يعود أحدٌ منهم إلى بغداد فيعلم الناس بنا00 إنه لئيمٌ ويحب الدماء ويقتل بلا دافع للقتل!

وقد ساءني من حنظلة أنه لم ينضم إلينا إلا بعد أن هزمنا القوم، وأنه كان يحافظ على نفسه،وقدرت أيضاً أن هذا الذهب لو قُسَّم بيننا فلن ينالني منه ما أصبو إليه ، وكل هذا جعلني أتسلل في غمرة الهياج و البحث عن الجمل الذي فيه الذهب ، وأهرب به تاركاً الرجال يتقاتلون مستعيناً بالظلام والغبار00

وسرت قليلاً وظننت أني فزتُ بالمال ، لكن أحد أعوان حنظلة واسمه عدي اعترضني وقد عرف مقصدي وبدلاً من أن أخفي فعلتي تصرفت بحماقة فصحت به إن الذهب لي وحدي00 فعلقت به وأصابني في بطني ورأيت أخي يأتي مسرعاً ، وقد فهم ما حدث فانضم إليَّ والتحم مع الرجل في مبارزة وأمرني أن أهرب بالجمل00

وهربت00 ممسكاً بجرحي ممتطياً ظهر الجمل00 وكنت أعرف موضع القارب فتحاملت على جرحي وعالجت الجمل حتى برك في جوف القارب00 وقطعت به النهر وهذا ما زاد من آلامي ثم أنهضت الجمل وركبت عليه، لكني بدأتُ أفقد رشدي فسقطتُ من على ظهره، وغاب عقلي حتى جئتني أنت0




يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع



زهور.. 2011-09-21 1:36 AM

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

الوديعه 2011-09-21 9:14 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
بعد سماع القصة تأكد لغياث بن عبد المغيث صدق توقعه ، وأن الذهب ليس غنيمة باردة00
بل هناك فئتان تصطرعان عليه مروان وشقيقه و حنظلة ومن تبقى من رفاقه0

وقرر في نفسه أنه يجب المسارعة بالرحيل فلابد أن القوم سيقتفون أثر مروان ويأتون إلى هنا00فيجب أخذ الخرج والسباحة إلى الضفة الثانية من النهر ، ثم ركوب الجمل والهروب 00

وفكر في كيفية قطع النهر سباحة والخرج ثقيل وليس هناك قارب غير ذلك القارب المعطوب الذي ربما أستقر في المياه الأن00

واهتدى إلى طريقة00و اعتزم تنفيذها00سيفرغ قربة الماء ثم يملأها بالهواء ويربطها إلى خرج الذهب، ويسهل بذلك جذبها معه خلال السباحة !

ودبت فيه الحيوية، وقام لتنفيذ فكرته والمسارعة بالهروب 00 لكن ذلك أصبح مجرد أمنية!
فقد تناهى إلى سمعه صوت فرس راكض 0 0 فخرج ليتحقق من الصوت فرأى فارساً طويلاً بسيف طويل ينهب الأرض باتجاه البيت 0000 فعاد إلى الداخل وهتف بمروان:

-لقد قدم أحدهم0

فصاح مروان برعب:
-لقد عرفوا مخبأي00 إنه الموت!!

وتعاقبت على وجهه الألوان00 وأيقن بالهلاك ولما رأى غياث تغيُّر سحنته طمأنه وقال بنبرة صادقة:
-لن يصلوا إليك وأنا هنا00 فأنا لست جباناً ولا خائناً0

وكل الذي تمناه في هذه اللحظة لو أنه سارع مع مروان بالرحيل ولم يتلكأ00 وأسر في نفسه الندامة00لم يكن من طبيعته الجبن00 لكنه أراد أن يتجنب قتالاً هو في غنى عنه0

وفتح أحد الصناديق وأخذ أجود الحراب الموجودة واختبأ خلف الباب، وسمع الفارس يترجل عن فرسه ويربطها في الجهة الخلفية من النخيل ويتقدم إلى الباب ، وتوقع غياث أن يجهز على مروان ساعة دخوله 00 لكنه بخلاف ذلك أنكب عليه بلهفة يتحسسه ويقول مبتهجاً :
-مروان!! هل أنت حي؟!

وصاح مروان مدهوشاً:
-سعيد أخي!؟

-كيف جرحك؟

-على شر حال!

-لقد تسرعت فيما فعلت00 ولو أخبرتني بنيتك لأخذتُ أهبتي ولما جرحت0

-لقد طرأت علي الفكرة فجأة، فسارعت إلى تنفيذها!

-هل تألمت من الطعنة كثيراً؟

-لقد تمنيت الموت من شدة ما وجدت!

وبرفق أخذ الفارس يد أخيه ورفعها عن بطنه ، ولم يرَ غياث تعابير وجهه لأنه كان ملقياً إليه بظهره00 لكنه سمعه يقول متكدراً:
-إنه جرح كبير!!

ثم رد يده إلى مكانها وقال يطمئنه:
-ستشفى وتنجو0

-أشك في النجاة00 لقد سال من دمي الشيء الكثير00لكن قل لي كيف تركت الرجال؟

-لقد قُتل ذاهب المقدسي00تعمَّد حنظلة قتله بسيفه00

-إنه لئيم وحقود0

-وقتل جميع رجاله00ومات منا أربعة00 أما أنا فقد قتلت عدي الذي أعترضك،وسلبته فرسه وهربت إليك00لقد علمت أنك ستكون هنا00وتأكدت من ذلك عندما رأيت ضوء النار من نافذة الحجرة0

لكن البقية علموا بما فعلت من الهروب بالأموال،وعلموا أني انضممت إليك00 وهم في أثري الآن ويلزمهم بعض الوقت ليصلوا إلى هنا00 فهيا سأحملك وسأردفك على الفرس00 ولنسارع بالنجاة بما غنمنا00فلا طاقة لنا بهم0

وسكت برهة يلتقط أنفاسه ثم سأل مروان بلهفة:
-أين الذهب والجمل؟

فأجابه مروان يشير بذقنه إلى غياث الذي برز من مخبأه:
-لقد استولى عليه هذا الفتى00!

وقفز سعيد كالملدوغ لدن سماعه بوجود شخص آخر في الغرفة وأستل سيفه وواجه غياث0

كان طويلاً00 نحيلاً00 وكان أصغر من مروان بكثير00 وأكثر وحشية وحذراً00 وهتف في خشونة:
-كيف تسلب أخي ماله00 وهو جريح عاجز؟

وقبل أن يقول غياث شيئاً صاح مروان:
-دعه ياسعيد00 لقد أخبرته بكل شيء00 مقابل أن يرجع الأموال، ويساعدنا ويأخذ بعض الذهب مكافأة له0

فنهره سعيد محنقاً وقال:
-ما زلت على غبائك يا مروان!

ووجه كلامه إلى غياث:
-أين الأموال؟

فرد غياث ببرود:
-هي أموال اغتصبت مرتين00 فما الذي يمنعها أن تؤخذ مرة 00؟

-إذاً فأنت تطلب القتال؟

-كما تشاء0

وهجم سعيد على غياث الذي كاد ينخسه بطرف حربته00 لكن سعيد كان أسرع فأطارها من يده بجنب سيفه، فدهش غياث لهذه المهارة، وقفز إلى ركن الحجرة،والتقط جذعاً قصيراً ومتيناً وواجه به سعيد الذي قال:
-إنك لا تعرف سعيد حتى تواجهه بخشبة؟!

-وأنت لا تعرف غياث حتى تتحداه!؟

وهجم سعيد على غياث وأهوى بسيفه عليه،فتدرع غياث بالغصن فعلق السيف به00وفيما حاول سعيد انتزاع سيفه00 ركله غياث برجله في خاصرته بشَّدة فسقط يتلوى ألماً0

وأخذ غياث السيف وبرك على صدره كالجمل، لكنه لم يتمكن منه لأن سعيد قبض على معصميه وضغط عليهما بقوة رهيبة حتى اكتستا لوناً أزرق فأسقط غياث السيف رغماً عنه، فحاول سعيد التقاطه وهو يمسك بغياث لكن يد مروان كانت أسرع فأخذ السيف0 وصاح به سعيد:
-دعني أقتله!

فقال مروان:
-إن له عليَّ معروفاً00 فقد أنقذني وعبر بي النهر ولولاه لكنت ميتاً الآن0

وتنازعت خواطر مضطربة فؤاد سعيد، بين ترك غياث لإحسانه أو الإجهاز عليه00لكن نزعة الشر غلبته، فهتف بمروان وهو يرص على أسنانه:
-أعطني السيف فلا مكان هنا إلا للقتال والغلبة00 وهو الذي طلب ذلك؟

فقال مروان:
-إذا قتلته ضاع منا المال إلى الأبد،فقد أخفاه في مكان لا يعرفه إلا هو0

ولما رأى غياث هذا الجدل حول حياته أخذته الأنفة00 فتناهض من تحت خصمه ثم قبض عليه من ثيابه ووقف وقد رفعه عالياً حتى لامس ظهره سقف الحجرة المنخفض وصاح:
-لست في حاجة إلى رحمتك ولا رحمة أخيك!

ثم قذف به إلى الأرض في سقطة عظيمه صرخ منها سعيد00 وهنا وقف مروان على ركبتيه على غير عادته00 وهو يطل من النافذة الصغيرة، وهتف في وجل عظيم:
-كفى عراكاً00 لقد جــــــــــــــاءوا00 حنظلة ورفاقه!

الوديعه 2011-09-21 9:19 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

التصق الشابان عند النافذة كأنما نسيا عداوتهما وأمعنا النظر في الظلام ليريا خمسة أشخاص على خيولهم وهم يسرعون تجاه النخيل والبيت الصغير ، وقد أثارت أقدام الخيول خلفهم سحابةً من الغبار00والتقت أعين الثلاثة في وجوم وقال مروان:
-لقد تأخرنا في الهرب، فلنتفق أيها الفتى لحين النجاة من هؤلاء وإلا هلكنا جميعاً!

وقال سعيد في خشونة:
-نتضافر لقتالهم00ثم نسوي ما بيننا فيما بعد0

فقال غياث بشجاعة وبلا تردد:
-قبلت0

وقد قبل على الفور هذا الاقتراح ، لأنه من الخير له أن يجابه سعيد لوحده أو برفقة شقيقه على أن يحاول الفرار بالذهب ثم يجابه مطاردة هؤلاء كلهم00

ورأى أن من الصواب أن يقضي على اللصوص بمعاونة سعيد ثم يقضي على سعيد فيما بعد00 وحدث نفسه أنه لن يواصل القتال بل سيهرب إذا سنحت له فرصة آمنة ، وإذا سلم جسده من طعنات اللصوص!

واقترب الرجال، ونزلوا عن خيولهم ماعدا واحد لم يرَ غياث وجهه بسبب الضلام ولكنه متأكد من أنه حنظلة زعيم هؤلاء الفتاك، لأن شارات السيادة والسيطرة تفيض من حركاته وتصرفاته وخضوع جماعته له0

وسأل سعيد بغيض مكظوم:
-أين وضعت الأموال؟

فرد غياث بفضاضة :
لا شأن لك0

-وسارع مروان يقول لأخيه: لقد عبرت النهر بالجمل على ظهر القارب، وسقطت قريباً من الضفة الأخرى حتى جاء وأنقذني ثم آثرت الاحتماء بالبيت والرجوع ، فرجعنا بعدما أنزلنا الخرجين اللذين فيهما الذهب إلى القارب وكاد القارب يغرق بنا00
فقذف هو بأحد الخرجين لتخفيف حمل القارب، وقد كان يحسبه بعض المتاع00أما الخرج الثاني فقد استولى عليه وأخفاه0

وهنا برقت عينا سعيد الشريرتين وسأل غياث:
في أي موضع من النهر أسقطت الذهب؟

فأجاب غياث بهدوء وعبوس:
-لا شأن لك0

فتركه وسأل مروان عن الموضع فقال:
-لا أدري كنت محموماً00 وكنت مستلقياً في القارب ولا أرى غير السماء0

وسكت سعيد على مضض0وأخذ غياث الحربة وأعطى مروان قوساً وسهماً،وهو يشك في قدرته على استخدامها بينما استعد سعيد بالسيف00وسمعوا أحد اللصوص يقول:
-سعيد هنا00وهذه هي الفرس التي هرب بها0

وصاح الرجل الذي لم ينزل عن فرسه يخاطب سعيد:
-أخرج ياسعيد00 فإن شئتما أعطيتماني الذهب وتركت لكما أرواحكما0

وألتفت غياث إلى مروان قائلاً:
-كيف عرفوا أنكما تختبئان هنا؟

فقال مروان:
-هذا مكان قديم لنا كنا نجتمع فيه0

و صاح الرجل ثانية:
-ألا تسمع!!اخرج قلت لك!

وتمتم سعيد:
-هذا حنظلة إنه غاضب للغاية!

وسأله غياث مستفزاً:
-هل تخاف منه؟

-قَّبحك الله وإياه00 إنه لا يساوي أظفري!

-هل هو مرعب؟فأنت تبدو مرعوباَ؟!

-أصمت!

-أنت من يصمت00 فأنا لست عبداً لك!

ورد سعيد عليه بلطمة قوية00 كافأه غياث بأشد منها00 وكادا يقتتلان ثانية لولا تدخل مروان

وعاد حنظلة يصيح بغضب:
-سيحل عليك غضبي يا سعيد00إنك رجلٌ واحدٌ ونحن خمسة فلا تورد نفسك موارد الهلاك00لقد خنت ما اتفقنا عليه وقتلتَ أحدَ رجالي، وساعدت هذا الأحمق!

التوت شفتا مروان حقداً عندما سمع حنظلة يشتمه0

وسكت حنظلة ليسمع جواباً ، فلم يسمع سوى هدير النهر فاستشاط غضباً وترجل عن حصانه وعاد يصرخ بنفس غضبه:
-اخرج00أعرف أنك هنا00 لقد توقعت أن تجيء إلى هذا الجحر0

ولم يتمالك مروان نفسه فرفع صوته مستكبراً على عجزه:
-ارجع وراءك ياحنظلة00 إنه الموت!

ورغم الأخطار فقد ابتسم غياث من تهديد مروان وهو لا يكاد يقف على قدميه!

بينما قال حنظلة ساخراً:
-هذا صوت مروان!!
بطن مثقوب ولسان طويل!
القتل لمن خان أصحابه0تقدموا و ائتوني بهذا الشقي0

وشهر اثنان من رجاله سيفيهما وتقدما ناحية الباب0
لم يسيرا غير القليل حتى ذهل اللصوصُ جميعاً،فقد انتقلت حربة من نافذة الغرفة الصغيرة لتستقر في فخذ أحد الرجلين فصرخ صرخة مكتومة وسقط على ظهره يتلوى من الألم،والحربة الطويلة مرتكزة في فخذه كالعلم0 وصاح صاحبه:
-لقد أُصيب زليط!!

ثم جعل يجره بإبطيه مبتعداً به0وقاس اللصوص المسافة بين الرجل والنافذة فكانت بعيدة00 تدل بوضوح على رامٍ ماهر!
مما حدا بأحدهم أن يهتف مدهوشاً:
-أهلكني الله إن لم يكن في الغرفة غير مروان وأخيه!!

ورد عليه الآخر:
-صدقت00فمروان جريح00وسعيد لا يجيد غير السيف!

ولم يخْف سعيد إعجابه فقال لغياث بعبوس:
-إنك رامي حاذق ياغلام00لقد أفزعتهم!

فقال غياث:
-لو شئت لو وضعتها بين نهديه00 ولكني لا أحب القتل!

فقال سعيد بحنق:
-يجب أن تحب القتل00 وإلا فماذا ستفعل إذا دخلوا علينا بعد قليل!؟

-إذا وقع ذلك فسأعرف ماذا أفعل0

تراجع اللصوصُ بعيداً عن الحجرة يتشاورون ويعالجون رجل صاحبهم00لقد حسبوا أن البيت الصغير مملوءٌ بالرجال0ثم جلسوا على الأرض في شيء من الحذر والترقب0 وقال سعيد وقد طمأنه وجود هذا الشاب الماهر بجانبه:
-إنهم ينتظرون الصباح 00سيرون منَّا مالا يسرهم0

مضت مدة، وأفرغ غياث في جوفه قليلاً من الماء، ونظر إلى مروان الذي استند إلى الجدار ومد رجليه00وقد سطعت في عينيه نظرة العجز والحيرة فأقترب منه ورفع القربة إلى فمه00 فانتزعها مروان بخشونة من يده وهو يقول:
-سأشرب بنفسي فلست مقعداً ولا عاجزاً كما تظن!

وابتسم غياث من أحد جانبي فمه فيما أضاف مروان وهو يمسح الماء عن لحيته!

-لا تبدو شريراً يا فتى!؟

-ولِمَ البخل ببعض الماء00 والموت يحيط بك00 والرجال يطلبون دمك؟

-يطلبون دمي!!لم يبقَ لهم إلا القليل منه!

-لا أظن ذلك00فإن العافية قد بدأت تسير فيك00دعني أرى الجرح0

وبرفق رفع يد مروان عن الجرح ، وشق الثوب من فوقه ثم مسحه بخرقة وبعض الماء00 وأزل الدماء المتيَّبسة حوله00كان جلد بطنه مشقوقاَ بطول الكف00 وكان محاطاً بالزرقة00وتأمله غياث ثم قال بسرور حقيقي:
-الطعنة التي أصابتك على جلد البطن00ولم تنفذ إلى الأحشاء!
ولو أسرعت إلى الطبيب وخاط بطنك لنجوت00

فقال مروان بيأس:
-الطبيب!! وأين الطبيب وأنا في هذا الموضع؟!

وأطرق غياث برأسه إلى الأرض متأملاً ثم قال لسعيد:
-هل تظن أن يسمحوا له بالرحيل؟

-كيف يسمحوا له أن يرحل سالماً،وقد قتلت أنا صاحبهم وجرحت أنت الأخر؟

-حتى ولو أعطيناهم بعض الذهب؟

-ويلك لن ينالوا منه قطعة واحدة

-حتى ولو كان في ذلك هلاك أخيك؟!

وأحس سعيد أن غياث أراد أن يفضحه00فسكت وقد طوى نفسه على حقد مكتوم0وبعد مدة أطل غياث من النافذة الصغيرة، وخشي انبلاج الصباح ففكر ملياً00ثم قال لمروان مبهوجاً:
-لقد وجدت طريقةً لإخراجك من هنا00سنثقب جدار الحجرة الثانية من الخلف ثم تتسلل من الثقب بهدوء وتركب فرس سعيد وتهرب00

-وكيف أهرب وهم يتربصون أمام النافذة والباب؟

إنهم أمام النافذة والباب لكن الجهة الخلفية للبيت لا يرونها فالنخيل يسترها00وهي التي تقف خلفها الفرس وسيساعدك الظلام في الهروب0

-أخشى أن تفشل خطتك00فيدركونني ويقتلونني00؟

-ذلك خير لك من البقاء هنا00وعليك المحاولة00 فإما أن تنجح وتهرب وإما أن يجتزَّوا عنقك بسيوفهم0

بدون أن ينتظر موافقة أحد شرع في نقب الجدار بأحد الرماح وسعيد يراقب اللصوص0
ولما قارب الضياء على الانبلاج كانت الثغرة قد أُنجزت وربط غياث بطن مروان وشدَّه وأعطاه قليلاً من الماء وقال له:
-هل تستطيع ركوب الخيل؟

-لا أدري00

-إذا ركبت حاول أن تتماسك، وتتحامل على جرحك كي لا تقع0

-سأحاولُ0

وأخرج غياث السيف القديم من الصندوق وأمسك الحربة في يده،وبدأ الاستعداد لتهريب مروان من البيت0 لكن ما وقع لم يكن في الحُسبان!

فقد عمد رفاق حنظلة إلى العريش الصغير وأشعلوا فيه النار من أجل أن تحاصر اللذين بداخل الحجرة وتضطرهم للخروج00وأرتفعت ألسنة اللهب00وأضاء لها المكان، وعلقت النار في باب الحجرة المتداعي ثم اشتعلت في السقف كادت الحرارة والدخان تخنقهم،وهتف مروان كاظماً صوته حتى لا يسمعه اللصوص:
-ساعدوني على الخروج وإلا احترقت!

ثم زحف وأدخل رأسه في النقب ودفعه غياث إلى الخارج وتابعه وهو يمشي راكعاً يتخفى عن أعين مراقبيه وكي لا تشتد عليه آلامه0ورآه يصل إلى الفرس المربوطة التي كانت تصهل وتحمحم،وقد أهاجتها رؤية النيران،ثم ركب بعد محاولات مضطربة ممسكاً بطنه وأنطلق مبتعداً00 وشك غياث في بقائه المدة الكافية ليصل إلى بغداد0

التجأ غياث وسعيد إلى الحجرة الثانية هرباً من الحرارة، بينما اقتحم أربعة من اللصوص الحجرة الأولى المشتعلة00
وكان أجرأهم زليط الذي تقدم وهو يعرج رابطاً فخذه بلفافة وقد لاحت في عينيه شهوة الانتقام00وبرز لهم سعيد وغياث وتشيَّم غياث أن يقاتل صاحب اللفافة لعاهته فتركه لسعيد الذي قضى عليه في لحظات 00

وتراجع غياث قليلاً وشدَّ أصابعه على الحربة ثم قذفها بعنف لتستقر في جوف أحد الثلاثة وتصرعه00ثم تقدم بالسيف القديم، ونشب بين الرجال قتال ضار زاده عنفاً ذاك اللهب الذي عمَّ أجزاء السقف وأصبح يتساقط عليهم من الأعلى،وتحامل غياث على صاحبه فصرعه وبقي سعيد ملتحماً بآخر الرجال00

وتساءل غياث عن حنظلة 00 كانت صرة ثيابه في زاوية الحجرة الثانية، وتحتها خرج الذهب مواراً بالتراب00 وقاس غياث بعينيه بين الباب وبين كنزه المدفون ، وكانت عينا سعيد تحاصره وهو يصارع خصمه على الأرض00وبسرعة انتزع غياث ثيابه و ولى هارباً إلى الباب،لكن جزءاً من السقف انهار وسدَّ الباب0وصاح سعيد بالرجل الذي كان يعتليه:
-الأموال!!إنه يهرب بالأموال!

وظنها الرجل خدعة فلم يتركه، وتصاعد الغبار والدخان ولم يعد أحد يرى شيئاً،و انطلق غياث إلى حيث النقب وخرج منه وهو يتنفس الهواء النقي00ويتمنى أن تطول معركة الرجلين00 ومضى إلى أحد الخيول التي كانت ترعى الحشائش على حواف النهر وقد تفرقت بعد مقتل أصحابها00وركب أحدها في عجلةٍ وهو يتلفت حذراً باحثاً عن الرجل الخامس!!

الوديعه 2011-09-21 9:27 AM

بسم الله الرحمن الرحيم

ثم انطلق و بانت تباشير الفجر الأولى إلى المدينة الكبيرة إلى بغداد

بغداد عاصمة الخلافة جامعة أشتات البشر الفرق شاسع بينها وبين الممرة هنا يسهل الاكتساب والعمل الملتوي بطمأنينة مئات الآلاف من الناس تروح وتغدو وقد استقبلت المدينة الواسعة غياث بن عبد المغيث بغير الاستقبال الأول،فقد جاء الآن تاجراً ثرياً رفيع القدر ولم يجيء ليجلد ويسجن!
لدى وصوله كان أول شيء فعله هو الاتجاه إلى سوق البزازين وأصحاب القماش واشترى حلة ثمينة وعمامة ضافية وجبة وسراويل فاخرة،وتنكر بزي تاجر،واستأجر داراً صغيرة حصينة وأخفى كنزه فيها ،واشترى طعاماً وأكل بشهية عارمة كان فائق الحيوية والبهجة سعيداً بالنصر الذي أحرزه مسروراً بهذه الثروة التي آلت إليه،بعدما قتل في سبيلها ما لا يقل عن سبعة وعشرين رجلاً!!
خرج إلى الأسواق والأماكن العامة وكان يجلس في مواضع قصَّية،يتفرس في وجوه الغادين والرائحين،يلمح وجه مروان أو سعيد أو ذلك الذي كان يقاتله في الغرفة عندما هرب وتمنى لو يعرف عن حنظلة شيئاً وهل هو الذي اختفى أم كان ضمن الذين قتلوا داخل الحجرة؟ إن الذي بقي حياً من هؤلاء الأربعة حتماً سيأتي إلى بغداد ولكن من الصعوبة إيجاده في مدينة كبيرة كبغداد تحوي العديد من الأجناس!
الصراع لم ينته بعد وإن من بقي من الرجال سيجدّون في طلبه لا محالة فلابد من تصفيتهم جميعاً بأي طريقة وكان أكثر ما يهمه سعيد وحنظلة،فهما أوفر شراسة وخطرهما أكبر وقد سرَّه أنهما على غير وفاق، وأن العداوة مستحكمة بينهما أما مروان فلم يكن يخشاه كثيراً لضعف رأيه ولأن كسب جانبه سهل وقليل من المال يكفي لشراء سكوته
وطال انتظاره، ولم يظفر بمن يبحث عنهم وانتظر اليوم الثاني فلم يرَ أياً من الأربعة وأمضى أسبوعاً ثم ثانياً وهو يتردد على الأماكن التي يتوقع أن يراهم فيها، وحدثته نفسه أن مروان وسعيد ربما هلكا ولكن أين الآخرين؟ ودب اليأس إلى قلبه وكان يقطع وقته بتسليته الوحيدة احتساء الخمور
وتاقت نفسه إلى العمل وتحريك غنيمته الضخمة0فذهب يبحث عن سماسرة العقار والضياع00يسأل عن البساتين والمزارع00 وبعد أن طاف على العديد منهم وقف على أحدهم وسأله عن بستانٍ يشتريه فأجابه الرجل:
-ليس عندي غير شوكة!
وما هي الشوكة؟
-نخيل وبستان مهمل00 أصحابه متنازعون متفرقون وقد أوكلوا إليَّ بيعه0
-إن كان في داخل بغداد فلا حاجة لي به0
-لا بل خارجها على مسيرة ساعتين من موضع قدميك0
-وهل هو واسع؟
-نعم00هل تحب أن تراه؟
-نعم0
-إذاً تعال إليَّ غداً0
-بل الآن!
وصاح السمسار منادياً على خادم اسمه سريع00فحضر عبدٌ أسود كهل بلحية بيضاء كرغوة اللبن00وخيل إلى غياث أنه معتوه أو أصمَّ00لأنه لم يتكلم ولم ينظر إليه،ولا إلى سيده وكانت عليه جبةٌ مرقعة وطاقية غليظة وحذائين باليين0
وقال له سيده:
- اذهب بهذا الرجل وأره شوكة0
ومضى غياث مع الخادم وحاول استدراجه إلى الكلام فلم يظفر بشيء، وسار ساعة حتى خرج عن المدينة00 وسار ساعة أخرى حتى وصل إلى بساتين عديدة متجاورة، وما خلفها كان أرضاً جرداء، وفي بقعة معزولة قريباً من النهر00توقف سريع عند بستان كبير بحيطان متينة00 لا يجاوره شيء00وكان فيه كثير من النخل أما أكثره فمساحات جرداء واسعة قد نبت فيها الشوك، وفي جزء منه قام قصر صغير فخم البناء، يحتاج إلى شيء من العناية00 وقد سحبت إلى البستان قناة من نهر دجلة، وفي أقصاه قامت مساكن صغيرة كانت تستخدم لسكن العبيد والفلاحين00 واعتزم غياث شراءه لانعزاله وسعته ووجود ذلك القصر فيه0 ورجع إلى بغداد مع مرافقة الصامت واشترى البستان بلا تردد0
وقال للسمسار:
- و أريد مع البستان شراء خادمك هذا!
ودهش السمسار لهذا الطلب الذي بدا له غريباً وقال:
-تقصد سريع؟
-نعم0
-إنه شيخ بطيء00 ليس له في السرعة إلا اسمه!
-هل يكتب؟
-إنه يكتب وقد جعلته على دفاتري وحسابي00 لولا أمانته ما أبقيته عندي!
-هل يجيد الزرع؟
-نعم إنه يعرف شؤون البساتين0 ولكن كما قلت لك إنه بطيء ولولا البغلة التي تحته ما وصلت البستان إلا في الليل!
-لقد أعجبني صمته وقلة فضوله00 وأنا أرغب فيه0
وانضم سريع إلى كنف سيده الجديد،واشترى غياث مزيداً من الموالي ووجههم إلى البستان لإصلاحه، وعاد إلى المراقبة وكان يسلك الطرق المهجورة مطأطئ الرأس، متلثماً بطرف عمامته0
وذات يوم كان عائداً قبيل المغرب إلى داره وعندما دخلها أغلق الباب ووضع عمامته وتخفف من بعض ثيابه00 وكان السيف لا يفارقه في ذهابه وإيابه ولا عند نومه00 وما كاد يجلس حتى برز له في إحدى الغرف رجل يكرهه00 فوضع يده على السيف وهتف عابساً:
-سعيد؟!
-نعم لقد التقينا مرة ثانية0
ودهش غياث لحالة سعيد00 كانت ذراعه اليسرى مشوهة00 قد أتت النار عليها00 وكانت ثيابه ممزقة في بعض أطرافها0 وخاطبه غياث في خشونة:
-ظننتك هلكت!؟
-لا لم أهلك بعد00 لم يحن أجلي لذا فأنت تراني أمامك!
-ما الذي جاء بك إلى هنا؟
-جئت لزيارتك والسلام عليك0
-الزائر يقرع الباب ولا يتسلق الأسوار!
-استقبالك خشن ياغياث!
-هذا ما يليق بلص مثلك0
-وأنت ألست لصاً؟!
-وأين مروان؟
-هل يهمك أمره؟
-نعم 00 إن أمره يهمني0
وجلس سعيد على دكة قريبة منه ومد رجليه بلا مبالاة وقال:
-لست أدري عن مروان شيئاً00 ربما قتله حنظلة!
-ألم يقتل حنظلة فيمن قتل؟
-لا00 إنه لا يقحم نفسه في الأخطار إلا بالحذر00 ولقد لحق بمروان عندما هرب ظناً منه أن الذهب في حوزته0
- لا أظنه سينجو فقد ركب الخيل وهو يترنَّح0
-إنه صبور كالجمال00 لكنه لا يحسن التصرف0
-يبدو إلي أنه أقل شرساً منك00؟
-إنه أحمق ولولاه لما تعرضنا لهذا القتال بيننا!
فأكد غياث على ما قال:
-لكنه لا يبدو شريراً متمرساً مثلك؟
وهنا قضم سعيد شفته السفلى وقال في مكر:
-أنا ضيف عليك يا غياث ولا يحق لك شتيمتي بهذا الشكل00!
فأجابه غياث في جفاء:
-لكنني لم أدعك ولم أرحب بك0
-لا يهمني هذا00 فقد لمحتك في السوق وتتبعتك حتى عرفت أنك تقيم هنا0
وأدار رأسه في الجدران والسقوف ثم أرعب غياث بنظرة حادة وقال:
-أنت فتى شجاع يا غياث ولو تضافرت جهودنا لاستفدنا كثيراً0
وأدرك غياث ما يرمي إليه سعيد فقال:
-لا تحلم بمثل هذه الأمور00 فقد حصلت على ما يكفيني ولا أظنني بحاجة إلى المزيد من التعب والمخاطرة0
عندها هتف سعيد بحدة وغيظ:
- وأنا وشقيقي أين تذهب أتعابنا وجروحنا ؟!
- تقصد الذهب؟
- وما الذي جاء بي إليك إلا طلب الذهب !!
فقال غياث ببرود تام!
-لقد سبق أن قلت لك أن الذهب سرق للمرة الثالثة!
-أنت تثير غضبي بكلامك هذا00
- هذا شيء أمره إليك وحدك00
تحلب ريق سعيد في فمه،وكدر ملامحه غيظ مكظوم،فقام من مجلسه وما أن تحرك استل غياث سيفه00 فقال سعيد بدون أن ينظر إليه:
-هوِّن عليك ما جئت لهذا00 لو كنت أريد قتلك لاختبأت لك خلف الباب وقتلتك ساعة دخولك!
فهتف غياث:
-لا تتحرك من مكانك00
وبدون أن يأبه له تقدم سعيد إلى موضع الماء وقال:
-أريد أن أشرب وأغتسل00 لقد جئت أعرض عليك الصلح0
وتنحى غياث عنه في حذر فيما تقدم سعيد وغسل وجهه وشرب،ثم قال وهو يمسح وجهه بكمه القذر:
-أنت شديد الحذر وتخاف كثيراً00
-لا شأن لك بهذا 00 قل لماذا جئت؟
- لقد جئت لأقول لك إنه لم يبقَ إلا أنا وأنت و حنظلة ومروان إن كان حياً00 وأنا أعرض عليك إن شئت السلامة أن يكون لك ما حصلت عليه من الأموال، وتدلني على موضع الخرج الذي أسقطته في النهر0 وأما حنظلة فهو لا يعرفك ولم يرك ولا تعرفه ولم ترَ وجهه فإذا ظهر فإنما سيطلبني أنا ومروان00 وتكون بذلك قد أمنت جانبه وكفيت شرَّه0
وسكت سعيد ينتظر جواب غياث00 فتأمله غياث فرآه أصفر الوجه متعباً00 وكان يتكلم بثقة ويأس وتأكد لغياث أنه مقدم على تنفيذ ما يريد ولو كان في ذلك حتفه00 ولكنه لم يصمد لأن شارات الإرهاق بادية عليه مما أغرى غياث أن يتحداه ويسأله بلا مبالاة!
-وإذا رفضت؟
فصاح سعيد وقد استل نصف سيفه من غمده!
-إذا رفضت فهذا سيقنعك!
فقال غياث بهدوء وتحدي!
-إني أرفض00
عند ذلك رمى سعيد قدح الماء من يده واستل سيفه بسرعة وانقض كل منهما على صاحبه،والتحما في قتال مرير00 كان صوت تقارع السيوف يغطي على الكلمات المبهمة التي يقولانها والشتائم التي يتبادلانها0
استمر صراعهما طويلاً
دون أن تميل الغلبة إلى أيٍ منهما00 وتصبب العرق غزيراً من جسديهما00 كان غياث أقوى جسداً من خصمه لكن سعيداً كان أمهر في استعمال السيف0 وتأكد لغياث أن صاحبه عليل ومتعب، فقد ارتخت نظراته وتعددت ضرباته الخاطئة، وحانت منه فرص ومقاتل لكن غياث كان يتجنب قتله0 وازدادت صفرة سعيد،وبدأ يتراجع فيما نشط غياث00 وتعثر عدة مرات لكنه كان ينهض عاجلاً، وبحركة من غياث جرح ذراعه وضرب سيفه بقوة ليطير بعيداً ثم هجم عليه وأطاح به، ووقف على رأسه متصاعد الأنفاس رافعاً سيفه إلى أعلى0
وهتف سعيد لاهثاً:
-اضرب00 فما عاد للحياة طعماً عندي!
وحاول أن ينهض فأهوى غياث بمقبض سيفه على رأسه فسقط مغشياً عليه0




الوديعه 2011-09-21 9:35 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
بأنتظار رأيكم بالروايه حتى انزل الباقي
شـكــ وبارك الله فيكم ـــرا لكم ... لكم مني أجمل تحية .




زهور.. 2011-09-21 8:45 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرواية رائعه اعجبتني كثيرا
اتمنى انك تنزلي الاجزاء الاخر
بأنتظار الاجزاء القادمه عزيزتي وديعه
موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

الوديعه 2011-09-22 2:28 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
وهاي تكمله القصه لعيونك بسمه الورد

عمل في البستان في تطور مستمر00اقتلعت الشجيرات الزائدة00وشذبت الأغصان المتهدلة00وقلمت الأشواك من النخيل00

وابتكر غياث محجراً لإحراق الأوراق ومخلفات جريد النخل تشبه البركة غير العميقة00وأُجري الماء بغزارة على الساحات الجرداء00وجرت الثيران القوية بالمحاريث عليها00وزاد غياث من أشجار البستان وأسرف في زراعة العنب00و اعتنى بحجرات الخدم والعبيد،وأصلح من شأن القصر الصغير،وزرع حوله أصنافاً من الرياحين والأشجار المتعددة00وابتنى في ناحية نائية من البستان بيتاً صغيراً بفناء صغير جميل، وأعدّه للقّيم الذي سيشرف على تجارته وزراعته ويقوم على بيع الثمار في أسواق بغداد0

وفي غضون ستة أشهر من وصول غياث إلى بغداد أصبح البستان جنهً لا يملها الناظر0
وقد عمد غياث من تغيير اسم البستان من "شوكة" إلى"المغاث" نسبةً إلى اسمه ونقش ذلك على الباب0

ويدين غياث بكثير من تقدم بستانه إلى كبير عبيده"سريع" الذي كان كما وصفه سيده الأول بطيء الحركة، لكنه لا يتوقف وكان أميناً00طويل الصمت00شديد الطاعة لسيده0
وبرهن سريع لسيده منذ الأيام الأولى أنه خير مؤتمن على السر، وينفذ ما يطلب منه بدقة وبلا أسئلة0

ففي ذلك اليوم الذي اقتتل فيه سعيد و غياث، قام غياث بنقل خصمه الذي أغشي عليه إلى مزرعته وسجنه في غرفة كبيرة مهجورة في مكان معزول من البستان، وعلى تلك الحجرة سور بُني من الحصى وقد أخفت أشجار من السدر طويلة ذلك المبنى عن الأعين0وكانت تلك الحجرة تستخدم مخزناً لأعلاف الماشية فيما مضى0 وقد استيقظ سعيد ليلاً مشوش الفكر من الضربة التي أصابته ليجد نفسه مجرداً من سيفه ومسجوناً في تلك الغرفة00 ومربوطاً إلى سلسلة طويلة لا يستطيع منها فكاكاً00 وكان غياث هو أول مَنْ رآه فخاطبه في كآبة وهزيمة:
-ماذا صنعت بي؟

فقال غياث في سخرية:
-صنعت بك ما ترى00أسرتك وسأكرمك لأنك ضيفي كما تقول!

-ألا تنوي أن تُريحني؟

-لا00لقد قلت لك أني لا أحب القتل0

-لكنك تقتلني حين تربطني بهذه السلسلة كالكلب!

-إنك شرير ولو كنت آمنك لأطلقت سراحك00وستبقى في هذا الموضع حتى أنظر في أمرك0

تقبل سعيد هزيمته بنفس شجاعة فلم يستجدِ ولم يطلب الرحمة مما أثار الإعجاب في نفس غياث بتجلده وصبره00وخرج من عنده،وأوكل رعايته إلى عبده سريع،وأوصاه أن يكتم خبر السجين عن الخدم وعن أي أحد0 وأصبح سريع من ذلك اليوم يحمل الطعام والشراب والفاكهة والنبيذ إليه0 وكان يفعل ذلك بصمت، ولم يسأل عن السجين00 من هو ومن أين جاء ولماذا سجن هنا!!

وكانت مطالب سريع قليلة وأكثرها من شأن البستان والعاملين فيه،ولم يطلب لنفسه شيئاً إلا مرة واحده،حين قال لغياث في تردد

- إن شاء مولاي أن يكرمني بأعطية من عنده أحفظها له ما بقيت حياً00فقال غياث في سرور:
- زوجتك00أعرف ذلك00 تريد أن أشتريها وأحضرها؟

- لا يا مولاي لقد ماتت زوجتي قبل عشر سنوات و إنما أطلب ابنتي عطر00

- ومن يملكها الآن؟

- سيدي الأول00السمسار الذي اشتريت البستان منه0و اشترى غياث"عطر"بعدما غالى سيدها في ثمنها00 وقد تبين لغياث فيما بعد أن عطر تفوق ثمنها عدة مرات00لقد كانت أمها رومية أُسرت في أحدى المعارك، وقد اشتراها السمسار وأنكحها عبده سريع فولدت له عطر وماتت بعد ذلك بعشر سنوات0

وقد مزجت الصبية بين دكنة أبيها وصفرة أمها، فجاء لونها نحاسياً بارقياً0 وورثت عن أبيها الطاعة والصبر على الأسياد0 وكانت مهذبة ظريفة، فملكت على غياث قلبه فاتخذها سرية وسكنت معه في القصر00 و ازداد إكرامه لوالدها، فلم يعد يندبه إلا في الأمور الهامة أو الإشراف على عمل الخدم0
واشترى غياث الأرض الجرداء المجاورة لبستانه ،وأخبر عبده أنه سيزرعها قمحاً في الموسم القريب0فعلق سريع مغتماً:

- أنا لا أعرف زراعة القمح ياسيدي00 وقد أصبحت شيخاً ثقيل الحركة كما ترى0 وسكت ليستجمع أفكاره وأحنى رأسه إلى الأرض و غياث ينظر إليه باسماً ثم قال:
- إن شاء مولاي أن نستأجر لزراعة القمح فلاحاً عارفاً بزراعة القمح وأكون أنا منصرفاً إلى الخدم والأسواق؟

فقال غياث:
- سيكون لك أكثر مما طلبت00 فسنستأجر للقمح من يقوم على زراعته،وبعد موسم القمح سأجعل على الأسواق قيماً وسيسكن في الدار التي ابتنيتها لهذا الغرض0

وتمضي الأيام في حياة غياث بن عبد المغيث حلوة00سعيدة00 فقد احتوشته الرفاهية00واستلقى على آرائك النعيم00 وتجلى عنه ليل الممرة الكئيب00ومنحته الأيام صباحها0
أصبح لا يأكل إلا الخبز المنخول00واللحوم الفاخرة، وتجلب له الحلوى من بغداد كل يومين00ويشرب النبيذ الطيب والخمر المعتق00 ويلبس ثياباً موشاة بالحرير00 ويتنزه كل صباح وعصر في أنحاء البستان الواسع بصحبة جاريته عطر00 تطرفه وتسليه بأحاديثها00وربما أخذته النشوة أحياناً فيقفز كالأطفال ممسكاً بيدها ويصيح معبراً عن حبوره!!

وأراد أن يمحو كل شيء يذكره بالماضي الكئيب00 فتناسى حنظلة فهو لا يعرفه00 ومروان ضعيف ومفقود وربما قتل00وسعيد في سجنه00 وظفر يوماً في بعض خزانات القصر بصرة ثيابه القديمة وقد وضعتها إحدى الخدم،فأخذها وقلّبها بين يديه ثم قذف بها في بئر يابسة في طرف البستان0

كان دائماً ينظر إلى نفسه في المرآة00 عيناه الحالمتين وفمه الجميل على حالهما أما كفيه فقد غسلت النعمة خشونتهما، فكانا على شيء من الليونة00 أما جسده فما زال على قوته ومتانته00وتضرج وجهه بحمرة النعيم00 وكان يقضي أكثر يومه فائق الحيوية والبشر00مسرفاً في شرب الخمر والنبيذ0

امتلك السعادة التي ينشدها00 وتحقق له النعيم الذي يطلبه00 وصدقت ظنونه حين وضعت الثروة حداً لشقائه المستديم00 وقرر في نفسه أن الحياة ابتسمت له بعد طول عبوس00 وأن بدره قد اكتمل نموه


الوديعه 2011-09-22 2:29 PM

توقف شيخ كبير مسن على باب بستان غياث وقرأ اسم البستان "المغاث" المنحوت عليه، ثم ترجل عن بغلته الهزيلة التي يركبها00 ثم قادها بزمامها إلى الداخل وسار حتى وصل إلى القصر وربط بغلته في مربط الدواب وذهب أحد الخدم ليخبر سيده أن رجلاً يطلبه0

كان الشيخ نحيلاً و مهزولاً كالدابة التي جاء عليها00لكنه كان مهيباً وقوراً00مخضوب اللحية بالحناء00عريض الحاجبين أبيضهما00بعينين بارقتين لامعتين بالفطنة0

وخرج غياث إليه وفي يده كأس النبيذ00فأصطدمت نظراته بهيئة الشيخ، وما أن رآه حتى اعتراه الخجل ووضع الكأس جانباً00ورحب بضيفه ودعاه للجلوس على بساط كبير مفروش تحت ظلال الأشجار القريبة من القصر فجلس وقال:
-لقد ذكر لي الخادم سريع أنكم في حاجة إلى من يقوم على زراعة القمح في الأشهر القادمة0

فقال غياث وهو يشير إلى أرض القمح البعيدة التي أُعدت وحرثت:
-نعم نحن بحاجة إلى من يقوم بزراعة تلك الأرض00فلا يوجد عندنا أحد يقوم بذلك،وقد أمرت عبدي أن يستأجر فلاحاً لهذا الشأن:
-وأين صاحب البستان حتى نحدَّثه؟

-أنا صاحب البستان!

فدهش الشيخ لكون هذه الضياع الواسعة لشاب في الثامنة والعشرين وقال:
-أنا اسمي شرف الدين من بغداد وأحسن العناية بالقمح،فإن شئت عملت عندك وأخذت العُشر عند الحصاد0

-لقد قلتُ لسريع أنني أريد أن أستأجر فلاحاً بالأُجرة00يأخذ أجره إذا انتهت السقيا وقطع الماء عن الزرع!

-أنا أعمل يابني في مزارع الناس كل سنة وكنت أتفق معهم على جزء من الحصاد!
تأمل غياث الرجل فارتاحت نفسه إليه وقال محاولاً إقناعه:

-سأجزل لك الأجر فذلك خير لك00فقد يأتي الحصاد شحيحاً00

-من أجل هذا طلبت جزءاً من الحصاد فلا أريد أجراً كاملاً عن حصاد شحيح0

-لكني راضٍ وقانع بذلك!

-إذاً فلم نتفق!

وبلا مناقشة ودَّعه الشيخ وقام إلى بغلته ليذهب فقال غياث على الفور:
وافقت00وافقت00

استقرَّ شرف الدين00 فلاح القمح00في الدار التي عدت ليسكنها القيَّم00 وشرع في العمل وأظهر دراية بالزرع وأجرى الماء وتابع السقيا، وبعد مدة بدأت وريقات القمح تشق الأرض ثم تأخذ في الارتفاع تحت شمس دافئة عجلت بإنباتها0

وزار غياث شرف الدين وتكررت زياراته له00واجتذبه سمته ووقاره و هدوؤه،وأصبح يأنس له ولا يخفي عنه مودته0وتضاعفت تلك المودة عندما طفق سريع ينقل إليه أخبار شرف الدين في بغداد ويثني على سيرته00فيعرف أنه لم يكن فلاحاً فحسب بل هو على جانب من العلم والتقى والفضل00يتكسب عيشه من العمل بالزراعة عند الناس0

وكان غياث يقول لجاريته عطر أو لسريع في صراحة تامة:
-أنا أحس بالبهجة حين تقع عيني على رجل من الصالحين منذ أن كنت صبياً00لكن شرف الدين مختلفاً كثيراً،فأنا أبتهج لرؤيته وأهابه،وقد فطن إلى ذلك فأصبح ينهاني عن الخمر ويعظني و يناصحني فصرت لا أشربها في حظرته، ولا في الوقت الذي أتوقع حضوره فيه00ولا أخرج إليه إلا إذا فارقني أثرها،وليس أحدٌ يشبهني فأنا سكير منحرف، ويعمل في فلاحة أرضي طالب علم تقي!!

مضت ثلاثة شهور00 وأوشك موسم القمح على الانتهاء ،وكانت سنابل القمح رفيعة متسامقة00تتمايل مع حركات الهواء00ورائحتها زكية00 تزيد السرور في نفس غياث00 وكانت الفترة الأخيرة من العمل تحتم أن يكون الماء متدفقاًً باستمرار على جذور السنابل التي ستصبح بعد مدة قصيرة صفراء ذهبَّية لتقطف بعدما تجف تماماً0

وركضت الأيام سعيدة مبهجة في حياة غياث بن عبد المغيث،وقد زادها تواجد شرف الدين ببشاشته ورحابته أنساً0

وجاء يوم اهتزت فيه قناعة غياث بواقعه00وفقد ثقته في سعادته،وفي الحياة الرغيدة السهلة المحيطة به00
تسللت إليه شمس الحقيقة ساخنة لتحسر عنه ظلال الوهم الذي كان يأوي إليه0
وكان ذلك على يد شرف الدين!

ففي بعض جلساتهما كانا قد فرغا من شؤون الزرع، وكعادته كان شرف الدين يذكره بالآخرة والتقوى00ويعضه00وينبهه إلى الثغرات فيما يظنه سعادته00 وفي معرض حوارهما سأله شرف الدين:
-لماذا أنت حزين يا بني؟

فقال غياث باستغراب:
-أنا لستُ حزيناً00كيف رأيت أني حزين؟!

-لأنك تعاقر الخمرة باستمرار00 وهذا دليل حزنك.

-أنا أشرب الخمر لأني ابتليت به،مع أني أحاول جاهداً الفكاك منه0

-لا00بل أنت تهرب إليه00لأنه يذهب بك عن دنياك التي تجدها محزنة!

-لكني أجد دنياي سعيدة!؟

-لو كنت سعيداً لما شربت الخمرة00لأنها دواء المحزونين!

-إن الدنيا قد أحزنت الكثيرين،وأنا قد استوفيت عِدة السعادة فيها00فما الذي يدعوني إلى الحزن؟!

-وما أدراك فقد يكون هذا سبب شقائك00 فإن في المال خاصية عجيبة، فقد تجد اللذة في تمنيه والحلم به00فإذا حصل شقيت به وتبين لك أنه كالسراب يسرك مظهره ومخبره الظمأ والخداع!

-ما أدري هل أنت فلاح أم حكيم!؟

-لا تشغل نفسك بي00 ودعني أفيدك بشيء ربما عقلته أنا لكبر سنّي؟

-ما هو؟

-إن الناس يشتمون الفقر ولو أنصفوه لوجدوه عين الراحة والسلامة في أدواء كثيرة!

-الراحة!!ومن هذا الذي يجد الراحة في الفقر؟!

-يرتاح بالفقر الذي تخفف من طمع الدنيا،وشغلت عليه الآخرة قلبه0

-كثير من الناس زهدوا في الدنيا،وآثروا الآخرة لعجزهم عن الحصول على الدنيا00

-ربما يكون ذلك من حسن تدبير الله لهم ولطفه بهم00فلو تحصل لهم المال لطغوا وانحرفوا0

-حقاً ويكون الفقر بمثابة دليل لهم إلى الآخرة ونجاة لهم0

-الفقر يذمه صاحبه في الدنيا ويحمده في الآخرة0

-لكن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الكفر بالفقر ووصف الجوع بأنه بئس الضجيع0

-لقد تيسرت للنبي صلى الله عليه وسلم سبل الغنى00فقد ملك العرب وساد الناس،وأخبر أنه لو شاء لسارت معه الأودية ذهباً وفضة00 ومع ذلك فقد كان بعض أصحابه أطيب عيشاً منه وأسهل حياة00 وهذا اختيار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم0

-إذاً فالأغنياء -على كل حال - في شقاء مستديم!؟

-في شقاء إذا استقر المال في قلوبهم00 أما إذا عمرت الآخرة قلوبهم وتحول المال إلى أيديهم، وقاموا بحق الله فيه فهم خير من الفقراء والمؤمن القوي خير من الضعيف والمال نوع من القوة0
ولسبب لا يدريه شرف الدين قال غياث بلهفة:

-لكنني سعيد بما أنا فيه من الغنى الواسع!

فقال شرف الدين ببديهية:
-سبحان الله00هل تثق في حواسك كل الثقة00إذا استجابت لكل ما تحس به،وحكمت على ما حولك بإحساسك هلكت فالأذن تخدعك والعين تخدعك00والنفس تخدعك وتميل بك إلى ما تشتهي وإن كان ضلالاً!
ألا ترى على كثير من العصاة00 أنهم يفعلون المعصية ويحسون أنهم على صواب فينخدعون ويمضون على أخطائهم!

-إذاً فلن نفعل شيئاً البتة خوفاً من خديعة الحواس؟

-ولهذا أنزل الله الدين حتى يكون مناراً يُهتدى به ويُستدل به على الصواب والفلاح،حفاظاً على الإنسان ورحمة من الله به أن يتبع هواه ورغباته فيضل ويهلك0
كما أن الحلال بين والحرام بين وكل ما أمر تزنه بميزان الله يتبين لك خطأه من صوابه0

-وأين تكون السعادة إذاً؟!

-أنا سأسألك00أين تكون السعادة؟

-أنا أقول إن السعادة في طاعة الله وتقواه،ولكني وجدت سعادتي في الثراء!

-هل جربت سعادة الهدى والتقوى0

-لقد صليت عدة مرات وكنت مع ذلك محزوناً!

-يا بني تقوى الله مراتب00 وكلما اقتربت من ربك كرهت الدنيا،وصرت تراها عبثاً ثقيلاً ومرحلة متعبة تشوقك دوماً للفكاك منها0

-ومتى أصل لهذه الحالة؟

-إذا اتهمت نفسك وشككت في حياتك التي تزعم أنك سعيد بها00وأنا الآن أدعوك للتأمل فيما مضى من عمرك،وما بقي وما سيعقب ذلك وأرجو أن تتجه إلى ربك بالعبادة التي يضيء بها القلب ويعمر بها لا تلك التي لا تعدو الجوارح0

وتناهض الشيخ للانصراف بعدما أوصى غياث أن يبدأ بالشك فيما حوله من حياةٍ وداعةٍ وسعادة مزيَّنة0

وكان هذا اللقاء نقطة البداية في حياة جديدة00قام غياث ذلك اليوم وقد اشتعلت في نفسه جذوة الحزن من جديد،وتسللت إليه كلمات وأفكار شرف الدين التي قلبت حياته رأساً على عقب!

الوديعه 2011-09-22 2:33 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

ذات مساء00
أوغل الليل في المسير00 وجلس غياث بن عبد المغيث في مجلسه الواقع خارج القصر00وأوقد ناراً وجعل يقلب كفيه فوقها ملتذاً بدفء،ويتأمل تراقص لهيبها00كان كل شيء ساكن والعاملون في البستان قد أووا إلى مساكنهم00ولم يعكر صفو ليلته تلك سوى أحزانه التي تجددت وفجر الشيخ شرف الدين سدودها،فقد زعزع قناعته بالهناء المحيط به وفضح كآبته السابقة ونشرها كجيفة كان التراب يواريها،فأخرجت من التراب وانتشرت رائحتها عفنة تعم الأرجاء!

إذاً فهو غير سعيد!00فلوكان سعيداً حقاً فلماذا اغتمَّ لجراحه القديمة التي نكأها شرف الدين00ولماذا أصبح يساهر الليل وحيداً محزوناً!؟
وقذف في النار بعض الحطب00

لا00إنه غير سعيد00لقد كان يوهم نفسه بالسعادة! ليعترف بهذه الحقيقة التي كانت تتبدى له فيغمض عينيه عنها00حقاً إنه لم يحس بسعادة سليمة من شوائب المرارة منذ أن استولى على هذه الأموال!

لقد أوجعه هذا الاكتشاف الجديد،فعاد يحاول التشبث ببقايا هنائه0وتشبث بكذب لذيذ، وآثر أن ينظر إلى الوجه الساطع في حياته،وأوهم نفسه في تلك الليلة بالبهجة ،وتكلف السرور وطرد الأحزان،فشرف الدين لا يعلم عن دواخله ولا قلبه00وحواسه لا يمكن أن تخدعه!!

ولبس ثياباً جديدة على جروح قذرة00وتمدد على الفراش الوثير متكاسلاً عن الذهاب إلى حجرته00حتى أخذه النوم0

في الصباح هزته يدٌ رقيقة فاستيقظ ناعساً00 وابتسم لجاريته التي وقفت على رأسه باسمة وقالت له:
-لقد جاءني والدي لأطلب منك أن تتحثث من جفاف القمح قبل أن يحصد ويدرس0

ونهض واغتسل وذهب برفقة جاريته متسكعاً ببطء كعادته بين الخمائل والنخيل و عرائش العنب،وهي تزف إليه روائحها الندية العابقة مع أنسام الصباح0

ولم يسر غير قليل حتى أدهشته عطر بسؤالها:
-هل تعاني من ألم يا مولاي؟

فالتفت إليها وهو يقول:
-لا00بل أحس بمزيد من العافية!

-أنت مكابر00وتستعلي على أوجاعك00 إن وجهك بائن الصفرة!! لقد لاحظت ذلك بعد قدوم شرف الدين! لقد أصبحت تجلس وحدك،وتظل ساهماً وكنت أراقبك فإذا رأيتك على هذه الحالة تركتك!

-أنت مخدوعة!

-لا00بل لقد رأيتك يوماً تبكي وحيداً فآثرت أن أمضي دون أن تراني00

-أنا أبكي؟!

-نعم00هذا ما رأيت!

-لم أعلم بذلك فكيف أبكي وأنا لا أعلم؟!

-أنا من يسأل هذا السؤال؟

لم يجبها بشيء سوى أن طمأنها بسلامته،وأكمل جولته ثم رجع،وأراد أن يتجول في الأنحاء، فأمر سريعاً بتجهيز الخيل وفوجئ به يقول هو الآخر:
-إن شاء مولاي أن يؤخر تجواله ويستريح؟

فقال مدافعاً عن نفسه:
-لكني لا أبدو متعباً؟

-أنت بادي الإرهاق يا سيدي0

وغشيته الكآبة من جديد وقد أثارته هذه الملاحظات، وتأكد له أنه يخادع نفسه ويتوهم أنه على ضفاف النهر من السعادة وهو خلاف ذلك00 لقد أصبح كمن تناول جرعة ماء ليغسل فمه فاكتشف أنه شديد العطش وهو لا يدري!

ومضى راكباً فرسه تاركاً عطر ووالدها وقد حيرهم أمره00وحيرتهم تلك التغيرات الجديدة في حياته!
خرج غياث ليتخفف من الكدر المطبق عليه00وأمضى يومين كاملين في غيبته لا يعلم أحد أين هو00ثم عاد محملاً بالمزيد من الكآبة00 ولم يجرؤ أحد على سؤاله أو محادثته بشيء،فمضى إلى حجرته وأغلقها على نفسه،ولم يخرج بعد ذلك!

وطالت مدة الحبس الذي اختاره غياث لنفسه00وكان الخدم يطرقون عليه الباب فلا يرد ولا يقبل الطعام00وحاولت عطر اقتحام عزلته فلم تقدر!واستنجدت بأبيها فلم يَلقَ جواباً00وظنَّ الجميع أنه هلك لولا بعض الأصوات المبهمة التي كانت تصدر من جوف الحجرة بين فينة وأخرى00وتثبت لهم أن سيدهم مازال على قيد الحياة0وأخيراً خطرت لسريع فكرة00مضى إلى بيت القيَّم وطرق الباب ليستنجد بشرف الدين0

وجاء شرف الدين واجتمع ببعض الخدم فأمرهم أن يبتعدوا حتى لا يثيروا حفيظة غياث00وطرق باب حجرة غياث بهدوء فلم يرد،فطرقه ثانية بإلحاح فجاء صوت غياث من الداخل ينهر الطارق ويأمره بالابتعاد،فقال شرف الدين:
-افتح ياغياث00 افتح يا بني أنا شرف الدين0وتكاثر الخدم وجاء بعضهم من الحقول لمشاهدة ما يحدث00وتراصوا في الممر المؤدي إلى الحجرة00

ثم سُمع من الداخل صوت يروح ويجيء على عجل ويحرك بعض موجودات الحجرة،ثم فتح غياث الباب محزوناً مدهوشاً ورحب بالشيخ الفلاح وبان على وجهه سرور حقيقي وقال:
-لم أكن أتوقع مجيئك إلى غرفتي!

فاختلق شرف الدين عذراً وقال:
-لقد أردت أن أودعك قبل رحيلي،فقد انتهى القمح ويجب أن أذهب0

ودخلا إلى الغرفة وأغلق غياث الباب ثم فتحه فجأة والتفت بصرامة في وجوه الخدم والعبيد الذين كانوا قد تكدسوا في الممر وارتفع بعضهم على أطراف أصابعه لمشاهدة غياث وهتف بهم:
-انصرفوا00!

ولم يغلق الباب حتى رآهم ينصرفون مسرعين في شيء من الذعر!

وكان غياث يرتدي ثيابه التي عاد بها من رحلته الغامضة00 وحذاؤه لم يخلعه طوال هذه المدَّة، حتى شكل عمامته لم يتغير00وكان ذابل النرات00 متعباً مكدور الملامح!

ومضت ساعتان كاملتان قبل أن يخرج غياث من الحجرة يتقدمه شرف الدين ولاحظت عطر أن سيدها محمر العينين00 رطب الأجفان!!


الوديعه 2011-09-22 2:39 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

رحل شرف الدين إلى بغداد بعد انتهاء مهمته وأتبعه غياث بالجمال التي تحمل نصيبه من القمح0

رحل00 وبقي أثره واضحاً جلياً على غياث فقد انتهج في حياته أسلوباً جديداً فصار لا يضيع صلاته ولا يترك فروضه00وامتنع عن شرب الخمور00ولم يعد يحمل السوط إرهاباً وهو يتجول بين الحقول!

وأمر عماله أن يهريقوا قدور النبيذ00 وباستقامته انزاح عنه كثير مما يثقل قلبه00وصار يجد في الصلاة ملاذاً يختبئ فيه عن أحزانه و قتامة أيامه0

ولكنه ظل متشبثاً بحب المال00 يرى أنه سيكون منقوص السعادة بدون ثروة، ولهذا تولَّد لديه صراع00واشتعلت الحيرة في نفسه تجاه هذه الأموال التي يستمتع بها،وهو يعلم أنها ليست له00وحاول إقناع نفسه بأحقيته في ذلك وبجدوى عمله0

وكأنما كان القلق والعذاب له بالمرصاد، فقد جاءه سريع وأخبره بوجود شاب أمين ونشيط من أهل بغداد على جانب كبير من العلم بالحساب وشؤون البيع00
وقال سريع:
-إنه فقير00وقد عرضت عليه أن يعمل لدينا في البيع والتجارة والإشراف على غلات البستان وبيع القمح0

فسأل غياث بلا مبالاة:
-وهل أخبرته بوجوب الإقامة في البستان؟

-نعم ياسيدي00 وقد وافق على الفور لأنه لا يكاد يجد أجرة المنزل الذي يسكن فيه ببغداد0
بعد أيام حضر القَّيم الجديد ليأخذ مكان شرف الدين في البيت، وليقوم بإدارة البستان والزراعة ويذهب بالغلات إلى أسواق بغداد0

مضت عشرة أيام على وصوله00 وفي عدة مرات كان سريع يأتي إلى غياث ويسأله إن كان يرغب في مقابلة الشاب الذي جاء يعمل عنده00فكان غياث يصرفه ويقول:
-لا00 ليس الآن دعه يتعرف على أعمال البستان وصنوف الزرع0

وكان يسأل سريعاً دائماً عن أحوال سعيد المسجون فيخبره أنه بخير وأنه على حاله من الغضب المستديم والتهديد والشتائم فيطمئن غياث لذلك،ويوصي عبده بالمزيد من العناية به0

وطوال هذه المدة كان غياث منصرفاً إلى شؤونه الخاصة مشغولاً بهمومه المتزايدة00ومكابدة نفسه الثائرة00 ولم يكن يفارق القصر إلا حين يقوم بجولته الخارجية وكانت تصحبه عطر في جولاته وكان في ذلك تسلية يومية له00وترك التجوال في الحقول والبستان ونسيها ونسي القَّيم الجديد00ولأول مرة تمنى أن يرزق بغلام يملأ عليه وحدته وحياته بالبهجة0

وذات عصر كان جالساً تحت ظلال الأشجار الوارفة القريبة من القصر، فأقبل إليه رجلٌ يشق عرائش العنب، وما أن وصل إلى بساط غياث حتى سلم بخجل ثم قال:
-أنا القَّيم الجديد على البستان ياسيدي00 هل تأذن لي بالجلوس ؟

فقال غياث:
-لقد توقعت ذلك عندما أقبلت علي0
ورحب به ودعاه للجلوس0

كان الشاب كما وصفه سريع00مهذباً00بائن الحيوية00عليه شارات الجد00وكان طويلاً مضرج الخدين بالصحة00 له هيئة توحي بفقره0

وقال الشاب في بشاشة:
-قيل لي إنك لا ترغب في مقابلة أحد00لكن تجرأت بالقدوم إليك00 فقاطعه غياث في وداعة:

-كان يجب أن أراك ساعة قدومك00لكن حال دون ذلك أعمال أخرى0

-لقد اضطررت لاقتحام مجلسك لأن أشغال الزرع والبضاعة والسوق تتطلب ذلك0

-كيف وجدت الدار؟لقد أمرت سريعاً بتجهيزها قبل وصولك؟

-إنها خير مما كنت فيه ببغداد00وهي إلى ذلك جديدة البناء0

-لم يمض على بنائها سوى عام!
و
ابتسم الشاب وهو يقول:
-لقد وسعتنا على كثرتنا!

-وهل أعجبت أسرتك؟

-يجب أن تعجبهم فقد كانوا في أضيق منها في بغداد!

-وهل زوجتك معك يا00أنا لم أعرف اسمك إلى الآن؟

-معبد بن عيسى0

-هل تزوجت يا معبد؟

-لقد أشغلني والدي بالبيع والعمل وكنت أعمد إلى تأجيل الزواج بسبب ذلك0

-إذاً كيف تركت والدك وحيداً وجئت بأسرتك إلى هنا؟

-لقد توفي والدي وترك لي هذه الأسرة الكبيرة0

وأطرق إلى الأرض محزوناً00فقال غياث يلاطفه:
-يجب أن تزيد في حجرات البيت00ألا يوجد من يساعدك على طلب المعيشة؟

-هناك أخ لي في السابعة عشرة00 وقد جاء معي بالإضافة إلى أخواتي فقد علمتهن أمي صناعة السلال والحصر من جريد النخل،فإذا اجتمع لنا شيء من ذلك يذهب أخي موسى لبيعه في بغداد0

-إذاً فقد عانيت من الفقر كثيراً0

ابتسم الشاب وقال:
-لا00 أنا خير ممن هم دوني00 لقد كنا نتحصل على شيء من اللحم إذا أعطاني من أعمل في دكانه أجرتي كل شهر00 أما البر فقد كنا نأكله كل أسبوع00 وسائر الأيام نكتفي بخبز الشعير00وملابسنا وباقي حوائجنا كنا نشتريها إذا باع أخي من السلال والحصر00وكان بعض من يعرفون حالنا يأتون إلينا بدراهم أو طعام لكن أمي كانت ذات جلد وصبر ،فترفض ذلك أنفة،وربما أخذت أنا المال لأدفع أجرة الدار بدون علم أمي!

وأحنى غياث رأسه إلى الأرض، وقد اكتسحه شعور مفاجئ بالحقارة،فازدرى نفسه ولم يتكلم حتى نهضا لتفقد شؤون البستان والتجول في أنحائه0

وفي تجوالهم مروا على بيت القَّيم الذي كان قريباً من النخيل00فخرج الصغار لمشاهدة صاحب البستان وتوقف غياث يتأملهم00 كانوا ثلاثة صبيان أكبرهم في التاسعة،وثلاث بنات دون الثالثة عشرة00كانت شعورهم منفوشة وثيابهم قذرة وكانوا يتضاحكون ويتخاصمون في حبور على تمرٍ التقطوه من أحواض النخيل، فرحين بالأفياء الواسعة التي أنستهم أزقة بغداد الضيقة00وقد جنحوا إلى الصمت لدى وقوف سيد البستان كانوا على شيء من الملاحة والنشاط،لولا يد الفقر التي طالتهم وعبثت بنظراتهم0

والتفت غياث إلى معبد ليقول شيئاً فوجده مطرقاً على الأرض00 خجلاً من هيئة أخوته00 فلزم الصمت وآثر الانصراف رفقاً بالشاب!

وقد أثبت معبد بن عيسى جدارته في العمل واستولى على إعجاب غياث بن عبد المغيث في أقل من شهر بإلمامه بالسوق ودقته في الحساب، وعلى صغر سنه فقد كانت سمعته طيبة في أسواق بغداد0

وقد فوض إليه غياث بكل شيء في شؤون الزرع والغلات والمال، وزاد في أجرته وبعد شهر آخر كان قد بعث في البستان دماء جديدة،فزاد في الزروع وأصلح الحوائط واقترح على غياث تسيير قافلة لبيع بعض الغلات في القرى القريبة من بغداد، ونفذ هذا الاقتراح بقافلة صغيرة أرسلها مع أخيه موسى فعادت بربح طيب0

وزال كثير من الكلفة بين غياث ومعبد، وأصبح الحديث بينهما يتعدى شؤون التجارة،وما زاد من ثقة غياث بمعبد كفاحه وقيامه على تربية أخوانه الصغار والمثابرة على تعليمهم القراءة والكتابة وتدريبهم على الأخلاق الحميدة0


الوديعه 2011-09-22 2:40 PM

بسم الله الرحمن الرحيم
ومن جانبه أعجب معبد بهدوء غياث ورزانته وتجنبه الثرثرة00ولم يضجره سوى عزلته الصارمة ووحدته القاسية التي لم يشهد لها مثيلاً00فهو لا يتعدى بستانه وقصره ولا يهتم بغير خيوله وتدليلها أو التجوال مع جاريته هنا وهناك00وأضجره تحفظه عن الكلام عن نفسه00فهو لا يعرف عنه إلا اسمه،وأنه مالك هذه الضياع وحاول الحصول على شيء من سيرته من العبيد الخدم ومن التجار في بغداد،فلم يجد عندهم أكثر مما عنده! فاقتنع أن صاحبه يطوي نفسه على كثير من الأحزان والغموض00فترك الإلحاح لمعرفة ذلك،وتتبع سيرة غياث خصوصاً عندما نهره ذات يوم بعنف وخشونة وعلى غير عادته وقد رآه يقترب من البيت الصغير المهجور المحاط بسور من الحصى0

وبطبيعة متسامحة نسي معبد هذا الجفاء من غياث ولم تتأثر علاقته به00إلى أن حدث ما عصف بهذه الألفة بينهما عصفاً وأضاف إلى أحزان غياث الهادئة أحزاناً جديدة ثائرة وعنيفة0

ففي مجلسه المعتاد أخر العصر جلس غياث يتناول الفاكهة، ولم يلبث حتى جاءه معبد وفي يده دفاتر البيع وقال بأسلوبه المهذب :
-أتأذن لي في الجلوس؟

فقال غياث:
-نعم تفضل00ماهذا الذي بيدك؟

-دفاتر السوق00 جئت لنراجعها معاً0

فقال غياث مداعباً:
ظننتها أوراق علم أو شعر!

-لم يترك لي طلب المعيشة وقتاً لقول الشعر0

فقال غياث وقد تذكر موهبة الشعر التي ماتت عنده منذ سنوات:
-وهل كنت تقول شعراً يا معبد؟

-أبيات قليلة تعد على الأصابع0

-ولماذا لم تواظب على قوله00فالشعر أداة ليخفف المرء عن قلبه؟

-لقد كنت أقوله في صباي، ولما بلغت العشرين من عمري تركته00 ثم قلت قصيدة صغيرة قبل سنة ولم أكتب بعدها شيئاً0

فابتسم غياث بسرور وقال:
-هل تحفظ من القصيدة شيئا؟

-أذكر منها مطلعها:
أسامر النجم والأقوام قد رقدوا *أبيت هماً وحولي الناس قد سعدوا
بكيت من كمدٍ من هول فاجعة *سكبت فيه دموعا مالها عدد
أبكي لفقد أبي من بعد رحلته *حتى أرى العين حزناً زارها الرمد

-إنها جميلة إن كانت كلها كهذا المطلع!

-لقد كتبتها عندما قتل والدي رحمه الله 0

-قتل00؟
لقد قلت لي أن والدك توفي فظننتها ميتةً في الفراش؟!

-لا00لقد قتل غدراً00 قتله اللصوص قبل عام ونصف!

-وكيف قتل؟!

-قتلوه عنوةً00فقد كان مسافراً إلى فلسطين بقافلة صغيرة، ومعه أموال طائلة وحرس كثير، ففاجأه لصوص قبعوا له ولرجاله على مسافة نصف نهار من بغداد وقاتلهم لكن اللصوص استطاعوا قتل رجاله وتعقب من فر منهم حتى أجهزوا عليهم جميعاً ونهبوا المال!

-وهل علم الناس بذلك00وهل عرفوا أحداً من اللصوص؟

-نعم00 فقد علمت أن أعرابياً أخبر الناس0فقد كان قريباً من موقع القتال، وقد جاء موافقة ليجد عشرات القتلى وآثار القتال،فأسرع إلى بغداد وأخبر الوالي والشرطة، لكن أحداً لم يعرف من قام بهذه الجريمة!

-هل كان المال كثيراً؟

-لم يخبر والدي أحداً برحلته هذه ولا بمقدار ماله حتى الرجال الذين معه00لكنه قال لنا أنه سيبيع كل ما يملك من عقار وضياع وأنه سيحمل ماله إلى فلسطين بلادنا الأصلية0

-وأين كنتم؟

-كنا قد سبقناه قبل مقتله إلى فلسطين00 وشاء الله ألا نحمل معنا إلا القليل من المال0

واستقامت شعرات من غياث بن عبد المغيث وتصبب العرق غزيراً من جسمه واعتراه الوجوم،ولاحظ ذلك معبد وقال بأسى:
-لقد أثقلت عليك وعلى نفسي يا سيدي بهذه القصة الحزينة0

فقال غياث محاولاً استدراجه للكلام:
-كلا00فقد سمعت بمقتل رجل بالغ الثراء من أهل بغداد اسمه ذاهب المقدسي00وقصته شبيهة بقصة مقتل والدك غاية الشبه!!

-ذلك أبي00ذاهب المقدسي هو أبي وقد تناقل أهل الأقطار قصته لغرابتها وكثرة من قتل فيها من الرجال!

-لكنك ذكرت لي أن اسمك معبد بن عيسى؟!

-نعم00 فقد اعتادت جماعتنا أن ينسب الرجل إلى جده خصوصاً عندما يكون ذائع الصيت00 وبهذا يكون اسمي معبد بن ذاهب بن عيسى المقدسي0

فقال غياث مناوراً لمعرفة كامل القصة:
-لقد ظننت والدك من أهل بغداد00 فكيف جاء إليها؟





-لقد قدم والدي إلى بغداد تاجراً قبل ستة عشر عاماً00وكنت صغيراً حينها00وعمل بجد في تجارات كثيرة منها القماش00 وصارت له قوافل تروح وتجيء ببضائعه من فارس والشام وغيرها00 وقادته التجارة إلى أكابر الناس وتوصل إلى الخليفة وصار من جلسائه00 وكان مقبولاً حسن الحديث فقربه الخليفة وأدناه ،وصرت أجلس في دكانه عندما يكون غائباً وتعلمت الحساب والبيع00وأحببت بغداد حباً فاق حبي لبلادي فلسطين0وصار الخليفة يستعمل والدي في بعض شؤونه،ويغدق عليه المكافآت فأثرى،وتحصلت له عنده بعض الضياع والدور والعقار0ولكن بعض جلساء الخليفة حسدوا والدي على حظوته ومكانه من الخليفة وظنوا أنه سيجعله والياً على بعض المدن مما يطمحون هم إليه، فسعوا بالوشاية والمكيدة بينه وبين الخليفة حتى جفاه وأغلظ له القول وطرده من مجلسه، فتأثر والدي لذلك غاية التأثر، وعاف بغداد والعراق كله وعزم على الانتقال إلى فلسطين بأمواله وأسرته00 ولقد حزنت لذلك كثيراً0 وحَمَلنا مع بعض المتاع والمال إلى فلسطين وطفق يبيع ضياعه وعقاره00ووصلنا إلى فلسطين و اكترينا بيتاً قريباً من أخوالي ومكثنا بضعة أشهر،وجاءنا رسول من والدي برقعة مختومة أخبرنا فيها أنه باع ضياعه وكل عقاره و بضاعاته واشترى بها ذهباً وأنه سيحمله على بعض الجمال وسيحرسهم فرسان استأجرهم لذلك، وأنه سيخرج متخفياً وسيصل إلينا في أقل من شهر،وأخبرنا ألا نعلم أحداً بمسيره0ومكثنا بعد ذلك شهرين، وساورنا القلق وطفقت أتلقى كل قادم من بغداد فلم أسمع عن والدي شيئاً، حتى جاء ذلك اليوم الذي قدم فيه أحد أقربائنا من بغداد ليخبرنا بمقتل والدي وسرقة أمواله، وقتل عبيده وكل رجاله على يد جماعة من الفتاك، وقال لنا أنه تولى بنفسه غسل والدي ودفنه0

ولست في حاجة إلى أن أخبرك أي حزن وأسى حل بنا وكيف انقلبنا في شهر واحد من الغنى الواسع والثراء الطائل إلى حال من الفقر والمسكنة؟ورجعت أنا إلى بغداد مع أهلي الذين ما وسعهم إلا الإتيان معي فلا عائل لهم غيري0واستفدت من معرفتي بأمور البيع فعملت عند صاحب أقمشة0

-وهل تعرف أحداً ممن قتل والدك أو سرقه؟

-لو كنت أعرف منهم أحداً لقتلته قتلاً!

قالها بحماس ظاهر00مما دعا غياث إلى أن يسأل بمكر:
-وهل تجيد القتال؟

-لقد تدربت على المبارزة0

-وكيف علم اللصوص بخروج والدك وأنه يحمل ذهباً؟!

-هذا ما يحيرني!!وإن كنت أشك في صاحب لوالدي!

-وما الذي يحملك على الشك فيه؟

-لأنه كان مقرباً من والدي00 ولم يكن يخفي عنه شيئاً من أسراره00وكنت أنا أراه شريراً00وكلما حذرت أبي منه سخر مني،وحذرني بدوره من سوء الظن!

-ولماذا كنت تراه شريراً؟

-لأن والدي عرفه في مجلس الخليفة00 وحصلت بينهما المزاورة بعد ذلك00 وقد سمعته أكثر من مرة يذكر والدي وما فيه من النعيم على سبيل الاستكثار والحسد0وقد استنقص والدي بحضرة الخليفة وهو غائب، وكادت الفرقة تحل بينهما لولا تسامح والدي وحسن ظنه0

-وسكت قليلاً ثم قال:
ومما زادني شكاً فيه أنه قبل رحيلنا بأسبوع كنت عائداً من الدكان فرأيته في درب ضيق قذر مشهور بكثرة الفتاك واللصوص،يخاطب ثلاثة رجال كريهي المنظر، وسمعته يذكر اسم والدي ويتحدث بصوت لم أسمعه لكني التقطت منه كلمات مثل:الذهب00الجمال00السيوف00واختبأت لعلي أسمع المزيد ولكن الرجال تفرقوا!

-وهل أخبرت والدك بذلك؟

-نعم00فلم يزد على أن أمرني بالذهاب إلى النوم!

وسأل غياث سؤالاً يعرف جوابه:
-وما اسم هذا الرجل؟

-اسمه كريه كصاحبه!!اسمه حنظلة0

-ألم تحاول تتبعه بعد مقتل والدك وعودتك من فلسطين؟

-فعلت00وسألت عنه وقيل لي إنه في السجن0

فسأل غياث بلهفة:
-ولماذا سجن؟؟

-لا أدري!

وطال الصمت بينهما، ورأى معبد بن ذاهب جبين غياث راشحاً بالعرق فقال:
-لنترك مامضى00 ولننظر إلى دفاترنا0

فقال غياث بصوت كالحشرجة:
-لا00 ليس اليوم يا معبد بن ذاهب00 أحس بالتعب0

وقام معبد مستأذناً بالانصراف ومضى تاركاً غياث يكاد يخترق الأرض بنظراته وبعد مدة طويلة خلع عمامته عن رأسه متخففاً ومسح شعره إلى الوراء00 ورغم اعتدال الهواء وبرودته إلا أن العرق عاد يتدفق على ظهره ويبل ثيابه، فقد استعاد هذه القصة التي تثقل قلبه بالوجع00 واعتراه شعور غريب00 شعور بالخوف00من شيء قادم00 لم يكن خائفاً من حنظلة00 ولا من معبد00 ولا من أي من البشر00كان خائفاً من شيء هائل يتململ بداخله

سـحـآبـه 2011-09-23 1:26 AM

الله يعطيـكـ ألف عآفيـــه
دوم هالإبدااع...

زهور.. 2011-09-23 2:36 AM

تسلمي وديعه
واصلي القصة اكثر من رائعه
موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

الوديعه 2011-09-23 1:43 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

عابساً00وكم استعذب تلك الصورة،فقام و توضأ من حوض شجرة قريبة وصلى صلاة المغرب شاعراً بالتناقض الصارخ بين ذلك وبين أحقاده وشروره المستفيضة، ثم جلس إلى أريكته ثانية وقد امتصت الصلاة الخاشعة شيئاً من عنف أفكاره0

وقام ليذهب إلى القصر00
لكن فاجأه من الخلف جسد قوي انطرح عليه!!وأحس بشيء بارد حاد يوضع على عنقه وخاطبه صوت من فوقه:
-إذا صرخت أو تحركت قطعتُ عنقك بهذا الخنجر!

وقيَّد المتكلم يديه من خلف ظهره، وأحكم ربطهما وأمره بالوقوف ثم خاطبه بخشونة:
-سر أمامي00وإذا تكلمت أو حاولت الهروب فستعلم ما يحل بك!

وسار غياث كما طلب منه00 ودفعه الرجل أمامه في ظلام الليل، وظلا يسيران بصمت حتى وصلاإلى النهر وهناك توقف الرجل، ثم أمسك بثوب غياث من جهة كتفه وأداره إليه بعنف ليواجهه00كان سعيدا00 وكان محنقاً00في عينيه يبدو زهو الانتصار واضحاً جلياً00 يكاد يشج وجه غياث بنظراته التي تغلي حقداً!

وكان غياث أول المتكلمين:
-إذاً فقداستطعت الهروب00؟!

لم يعلق سعيد00 بل سأل في حنق:
-هل استخرجت الذهب من النهر؟

فقال غياث متجاهلاً سؤاله:
-ليتني أعرف كيف حصلت على المنشار؟!

رفع سعيد قبضة يده في الهواء ولكم غياث على وجهه لكمة ًأطاحت به في أوحال النهر، ثم جذبه بعنف ليقف ثانية وصرخ في وجهه:
-إذا سألتك فأجب00 هل استخرجت الذهب من النهر؟

فقال غياث وهو يبصق دماً:
-لو كانت يداي طليقتين لعرفت كيف أرد عليك أيها الوقح!

استشاط سعيد غضباً ولكمه ثانية ، فلما تهاوى ليسقط أمسكه من صدره وصاحبه:
-هل استخرجت الذهب من النهر؟

فأجاب غياث بصراحة تبعث على التصديق:
-لا00 إنه مازال في القاع00

فعلق سعيد:
-كما توقعت فلم تحتج إليه حتى الآن0

ثم كبَّه على وجهه في قارب صغير به مجدافان ودفع القارب إلى عرض النهروصعد إليه،وبدأ يجدف باتجاه الجنوب وجلس غياث منتصباً في مقدمة القارب الذي كانت الرياح المواتية تزيد من سرعته0لم يشك غياث في أن سعيداً عاد إلى مطلبه الأول00الحصول على بقية الذهب الذي يقبع منذ سنة ونصف في قاع النهر00وتساءل غياث هل سيقتله بعد الحصول على ما يريد أم لا؟
إنه لا يدري عما يدور في خلده،فقد مضت ساعتان دون أن ينطق أحدهما بكلمة00ولم يكن يقطع الصمت سوى صوت المجاديف وهي تضرب صفحةالمياه المعتمة بحنق00 وبدا لغياث أن سعيداً لا يتعب أبداً، فهو لم يفلت المجدافين لإراحة يديه والنفخ في كفيه00بل ظل يجدف بعبوس وبطريقة عنيفة كأنه يريد تكسيرالمجدافين لا الوصول إلى مكان معين!!

حرك غياث يديه اللتين أوجعهما الحبل الغليظ وعدل من جلسته غير المريحة عدة مرات وأضجره الليل والصمت فقال وقد لوى شفتيه نكداً وعبوساً:
-أين ستذهب بي؟فلم يجبه سعيد بغير نظرة تفيض بالاحتقار والحقد،فقال غياث:
-كان الأولى بك أن تواجهني كالرجال00لكنك آثرت الغدر فأخذتني وأنا لا سلاح معي!





ولم يزد سعيد على الصمت فقال غياث محاولاً استثارته:
-لقد ساعدتك الشياطين!!وإلا كيف قطعت تلك السلسلة؟! وكيف تخلصت من ذلك القيد على قوته؟!!

ولما لم يجبه سعيد بشيء انفجر غاضباً وصرخ:
-أأصم أنت؟!تكلم قطع الله لسانك!

وجاءت النتيجة على غير ما أراد غياث، فقد ترك سعيد أحد المجاديف00 وقذف غياث بدلو ثقيل من النحاس فلم يخطئ رأسه وسال خط دقيق من الدماء من جبينه وتوقف على أرنبة أنفه فهدأت ثائرته وقال بهدوء وحزن:
-أهكذا فعلت بك أيها الشرير؟ كان عبدي يحمل لك الطعام وأنت في القيد،وكان يكنس المكان الذي أنت فيه00 ولم أكن آكل شيئاً من الفاكهة والعنب إلا وأبعث لك بمثله!

تكلم سعيد أخيراً وقال وهو يصرُّعلى أسنانه محنقاً:
-تمتن ُّ علي َّ بطعام لا يكلفك نصف درهم وأنت قد استوليت على أموال لا تحصى!! وتحتبسني عاماً ونصف العام كالكلب ثم تدعي أنك صاحب فضلٍ علي؟!

-لقد كنت في حوزتي ولو شئت لقتلتك!

-ومن زعم أنك لم تقتلني00 لقد كنت تقتلني كل يوم!

-لقد تركت حياً شفقة بك00 وكان السجن خير مكان لك0

-ليتك قتلتني وأرحتني!

-لقد قلت لك إني لا أحب القتل0

-أما أنا فأحب القتل!

قالها بنظرات مرعبة كادت تهز فؤاد غياث الذي قال متجلداً:
-أنا لاأخاف منك00 ولكن أريد أن أعرف أين ستذهب بي؟وعاد سعيد إلى صمته00 وإلى دفع القارب بنشاط وعبوس ومد غياث رجليه وألقى برأسه على حافة القارب باسترخاء00 يتأمل النجوم الزاهرة00 واجتذبه بهاء القمر وجمال السماء وأنسته القبة الزرقاء ومصابيحهاالهائلة أي خطر هو فيه وأغمض عينيه مستسلماً للنوم0لا يدري متى نام00 ولكنه استيقظ والضياء يملأ المكان00 و أنسام لذيذة تنعش الروح كانت تهب بين الفينة والأخرى ورأى سعيداً وقد نام في مكانه والقارب عالق بضفة النهر00وتلفت حوله فعرف المكان00فهذه هي الحجرات الطينية، وقد أتت النار على سقوفها،وهذا هو النخيل اليابس لم يتغيرفيه شيء00كان هذا هو المكان الذي شهد اللقاء الأول بينه وبين اللصوص0وتأمل سعيداً00 إنه نائم00فلماذا لا يهرب؟00وحرك جسمه محاولاً النهوض ففوجئ بنفسه مثبتاً بإحكام إلى أحد ألواح القارب،واستيقظ سعيد وشرع حالاً في العمل00

وخاطب غياث بخشونة:
-ستنزل الآن إلى الماء00 وعليك أن تخرج الذهب الذي قذفت به هنا عندماكنت مع مروان0

-أنت مجنون!الوقت بارد وإذا نزلت إلى الماء فربما هلكت من البرد!؟

-لا يهمني ذلك!

وجعل سعيد يعمل بحماس فقطع الحبل الذي يربط غياث بالقارب وهم بأن يقول شيئاً فسبقه غياث بقوله:
-أريد أن أصلي الفجر0

فرد سعيد بسخرية من غير أن ينظر إليه:
-منذ متى بدأت تصلي؟!

-لا شأن لك0وبدون أن يبالي به قفز خارج القارب،ووقف على اليابسة وقال بلغة آمره:
حل وثاقي 00أريد أن أتوضأ0

-حسناً00قالها سعيد وهو يتقدم إليه،وبدلاً من أن يحِلُ وثاقه قطعه بالخنجر فحرر غياث يديه،وجعل يحركهما ويزيل تصلبهما00

ولكن سعيداً ألصق رأس خنجره الطويل في ظهره وقال:
-اصعد00وجدف00 عليك أولاً أن تجد الموقع الذي فيه الخرج،ثم تنزل إلى القاع للبحث عنه 0وأمام وخز الخنجر صعد غياث القارب وهويقول:
-لابد أن النهر جرفه وغير موقعه0!

-لو جرفه النهر فلن يبتعدكثيراً0وجلس غياث إلى موقع المجاديف، وجعل يسير بالقارب يميناً وشمالاً ويتأمل الضفة الشرقية والغربية محاولاً تذكر الموضع،الذي كاد يغرق فيه مع مروان0

ثم توقف في منتصف النهر وقال:
-أظنه هنا00فَبانَ البشر على ملامح سعيد وتناول حبلاً متيناً0وأمر غياث أن يلفه حول وسطه00فوقف غياث وربط الحبل على بطنه،ولما فرغ ركله سعيد برجله ليسقط على صفحة المياه الهادئة 00صارخاً من شدَّة لسع الماء البارد وأمسك سعيد بطرف الحبل وقال:
-هيا00انزل إلى القاع وابحث عن الخرج00وبعد تردد قصير فعل غياث ما طلبه سعيد،فأخذ نفساً كافياً ونزل إلى القاع المظلم يتلمس أرض النهر وصخوره ولدقائق،ثم يخرج ليلتقط أنفاسه ويعود البحث من جديد00وتكررت المحاولات و غياث يقاوم جريان النهر وبرودة الماء00 ويبحث جاداً عن خرج الذهب لكنه لم يظفر بشيء00وأخبر سعيد أنه لم يجد الذهب فاستشاط هذا غضباً وصاح:
-يجب أن تجده00 إن حياتك مرهونة به!

ثم جذب الحبل المربوط في وسط غياث بعنف حتى التصق بالقارب وقال له وهو يضغط أضراسه،ويتحسس بخنجره عنق غياث المتين:
-إذا لم تجدالذهب00فإنها نهايتك0!



الوديعه 2011-09-23 1:44 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

فسبح غياث إلى موضع آخر00وجدف سعيد خلفه وهو ممسكٌ بالحبل حتى لا يهرب غريمه00 وبدأ البحث من جديد00
ومضت مدة و غياث يغوص إلى القاع ويمسحه بيديه ورجليه،مثيراً سحاباً من الطين الراكد يزيد من ظلمة القاع وقتامته00ثم يصعد ليلتقط أنفاسه،واعتاد جسمه برودة الماء مع أن أسنانه كانت تصطك تحت وطأة البرد والتحفز00 ثم انتقلوا إلى موضع أخر دون أن يجدوا شيئاً00 ثم أصبحوا ينتقلون إلى مواضع عديدة من النهر00 وكانت اللهفة بادية على ملامح الاثنين00وبَانَ الإعياءُ على غياث00وبارتفاع الشمس بدأ يجد بعض الصناديق والشِباك والحبال التي قذف بها عندماكان برفقة مروان،فأشرق الأمل في نفسه وعلم أنه أصبح قريباً من بغيته00
وأخيراً لمست يداه شيئاً صلباً،فتحسسه وعرف فيه خرج الذهب00وكان الطين يكاد يطمره00فحاول رفعه فلم يستطع بسبب المياه00فصعد إلى السطح وهتف لسعيد متصاعد الأنفاس:
-لقدوجدته00ولكنني عجزت عن رفعه لأنه ثقيل والمياه ترفعني!
فقال سعيد بصبر فارغ:
-حل الحبل من وسطك واربطه في الخرج0وشرع غياث في ذلك لكن سعيداً صاح به وقد أدركه الحذر:
-كلا00انتظر00اربط هذا الحبل0وقذف إليه بحبل آخر ربط طرفه في القارب00بينما تناول غياث الطرف الثاني منه،وغاص به،وربطه في صرة الذهب الثقيلة ثم صعد إلى السطح وتعمد هذه المرة أن يكون قريباً من القارب، ولم يلحظ سعيد ذلك بسبب نشوته وهو يجذب الذهب من أسفل النهر0لقد اعتزم غياث أن يهز القارب لعل سعيدا ًيسقط أو يقبل إليه فيجره إليه ثم يقتتلان في الماء00كانت تلك محاولة أخيرة للنجاة00استخرج سعيد الأموال الغارقة بفرحة طاغية وركع فوقها يزيل عنها بعض الطحالب العالقة،ويحاول فتحها مذهولاً عن خصمه الذي غاص وتسلل تحت الماء حتى صارإلى الجهة الثانية من القارب بحيث لا يراه سعيد وبحذر أمسك حافة القارب بيديه وثبت رجليه على جانبه ثم هزَّه فجأة وبعنف فاستقام سعيد واقفاً و غياث لا يكف عن التأرجح بالقارب وتماسك سعيد حتى لا يقع00وكما توقع غياث فقد أقبل عليه سعيد وقبل أن تصل يده إلى جراب خنجره التقط غياث طرف ثوبه وجرَّه بشدة إلى الماء تمهيداً للعراك00صرخ سعيد صرخة وحشية أفزعت غياث00وجعل يتخبط في المياه بعنف وعشوائية00وبخفة تعلق غياث بالقارب وصعد إليه00كانت نتيجة محاولته تلك ناجحة أكثر مما توقع!!
فتمتم متعجباً:
-إنه لا يجيد السباحة!!
وأعمل يديه في حل الحبل الغليظ المربوط حول وسطه،أما عينيه فكانتا مثبتتين على سعيد الذي كان يطفوا و يغوص ويصرخ مستغيثاً00منادياً غياث بأنه لا يعرف كيف يسبح!!
ثم كلت يداه وتحول صراخه المستغيث إلى غرغرة خافته حتى اجتذبته الأعماق القاتمة بلا رحمة!!
فكر غياث سريعاً00 وبعدتردد قصير قذف بنفسه إلى الماء قابضاً طرف الحبل00وتحت الماء جعل يعوم باحثاً عن سعيد كما كان يبحث عن الخرج ولم تطل المدة حتى وجده مستلقياً على قاع النهر مثل النائم فربط الحبل حوله00 ثم صعد إلى القارب واجتذبه إلى الأعلى، ورفعه إلى القارب وتفقده قليلاً ثم قال متمتماً:
-لقد وصلت إليه متأخراً!
وجعل يتأمله في نكدعظيم00 وجدف إلى الشاطيء00ثم سحب الجثة إلى الرمال الدافئة وهو يقول بخفوت:
-سيأتي إليه من يدفنه0ثم صعد إلى القارب وجعل يجدف ناحيةبغداد00ساهماً00 ينظر في البعيد00حيث الأفق الصافي00مهموماً00يتأمل الطيور الطافحةفي السماء ويحسدها على الحرية!
لقد أحس في هذه اللحظة أنه مسجون00مقيد00مربوط إلى رغباته وشهواته كالبهيمة التي تعد للذبح!!
ظل يجدف ولم يُلقِ نظرة واحدة إلى الأموال التي تقبع تحت قدميه00لقد أحب الدين والاستقامة ووجد سلوته في الصلاة00لكنه يشتهي المال والمجد00واليوم أسمعه موت سعيد نداء العالم الأخر الذي سينتقل إليه يوماً ما00وذكره بالحقيقة التي عجز عن الفرار منها00حاول استرداد عقله الشارد00 لكن بصره ظل عالقاً بالأفق البعيد00وذهنه سجين المشهد المفزع00غرق سعيد00وهو يتشبث ببقايا الحياة00كيف تدفقت المياه بسهولة إلى جوف ذلك الوحش الكاسر00وكيف دوى صراخه المتغرر بالماء وهو يكافح من أجل نسمة هواء00لم يكن ذلك أول مصرع يراه00 لقد رأى القتال العنيف في بيت الطين وساهم فيه بنصيب كبير00لكن موت سعيد كان موقوتاً00 جاء وقد تغلب عليه هاجس الموت والرحيل إلى الدار الآخرة!
فرأى عياناً هوان الدنيا واحتقارها00ورأى سطوة المنون كيف أنهت جبروتاً عريضاً في لحظات00وخاف00 و ازداد خوفه من هبوط الليل00وتمنى لو كان شرف الدين بجانبه يقرأ عليه من القرآن ويعظه ويذكره بالآخرة00شرف الدين ربان سفينته التي انتشلها من قبضةالأمواج00 والذي كان ينهاه عن الدنيا والفساد والخمر ويذكره بأهوال الآخرة00لو يراه الآن وقد اكتسحت ذكرى الموت والرحيل تفكيره00وضجت بها نفسه المكلومة! كم يحس الآن بظمأ شديد إلى الموعظة والآيات والصلاة0وجعلته هذه الخواطر يجدف بسرعة في لهفةإلى الوصول!
عندما وصل إلى مزرعته الكبيرة كان الليل قد أوغل في المسير00فألقى أول نظرة له على الذهب ثم حمله وقفز من القارب00كان مبتلاً00مصك الأسنان00منتفض الجسد من شدة البرد00كان البستان في سكون تام00 والجميع قد أووا إلى مساكنهم00واجتاز الباحة المؤدية إلى القصر يكاد يسقط من الإعياء وقبل أن يدخل إلى القصر توقف والتفت إلى بيت أولاد المقدسي00 كان المسكن الصغير مضاء ورغم بعدالمسافة إلا أنه أحس أنه يقف على عتبته00 وتدلت شفته السفلة لذلك وفاضت عيناه بالدموع 00وذلك آخر ما يذكره!
ووجده بعض الخدم ملقى عند الباب فحملوه إلى فراشه ليمكث يومين كاملين شوته الحمى فيهما شيَّاً00لم يكن يشعر بما حوله،فقد تضافرت المياه والبرد وفترة التحول والتغّير التي يمر بها على إنزال الحمى به، وهب سكان القصر والبستان وعلى رأسهم سريع ومعبد وعطر على العناية بسيدهم والإحاطة به00لم يقف00بل كان يهذي بالكثير مما تضج به نفسه00 وكانت تفلت منه كلمات لم يفهم المحيطون به منها شيئاً00كان يذكر اسم سعيد وبيت الطين00وخرج الذهب00 وقاع النهر!!
وأشد ماأثار استغراب معبد أنه تلفظ باسمه واسم حنظلة!
كان يطلب الدفء والأغطية، ورغم كثرةما وضع فوقه إلا أنه ظل يرتعش وبعد غروب شمس اليوم الثاني استيقظ وقد زاولته الحمى00 ولم يكن بالحجرة أحد و كانت العتمة تمنعه من رؤية الأشياء00 ولما ألفت عيناه الظلام،كان خرج الذهب أول شيء رآه00لم يفتح ولم يتغير فيه شيء00ورغم بياض حاضره إلاأن بقايا من قتامة الماضي أوهمته أنه مازال يعشق الثراء، ويحفل بالدنيا،فأخذ الخرج ودسَّه معه في الفراش بلهفة،وعاد إلى النوم من جديد!
نام إلى منتصف الليل00ثم استيقظ من فراشه مثخناً بالحزن00مشوش التفكير00كانت هموم الأيام الماضية تعصفبه00وقد تفجرت فيه العاطفة المكبوتة وفطرة الخير الأصيلة التي حاول رفسها والإجهازعليها تحت وطأة الثراء!!
وترجحت عنده كفة التوبة وطلب الآخرة، واجتمعت تلك الأشياءلتواجهه في عنف وتلطمه بالحقيقة00 إنه سارق ومجرم،ويجب أن يرد الحق إلى أهله ويتجرع مرارة الفقر القديم على أن ينعم بسعادة التقوى0و التهمه سؤالٌ محرق00هل هو شريرفيواصل طريقه الأسود00أم طيب متدين فيقف ويرجع؟!
ولكي يحصل على جواب استرجع ماحدث له00 لقد أنقذ مروان وقذف بنفسه في المياه لإنقاذ سعيد وأكرمه عندما كان فيأسره ولم يعمد إلى قتله00وواظب على الفرائض وترك الخمر00فهو في الأصل صالح وطيب السريرة00بل خبيث وشرير00فقد عق أبويه ، وسلب الصياد صاحب الحمار واستولى على أموال ورثة المقدسي00وتسبب في إفقارهم!
وأعياه الجواب00وتداركه الخور00 وتعثر في حطام الضلالة المتبقي00وذكرى الفاقة السوداء00فأخفى الخرج تحت فراشه، وظن أن ما يجول بنفسه خواطر عابرة، أوحاها ضعف مؤقت00فقرر القضاء على كل من تآمر ضد سعادته،وصمَّم على طرد معبد وأسرته،لأن وجودهم سبب ما يعتريه هذه الأيام00وتخيل أنه جبار00فحمل السوط مهتاجاً وخرج إلى بيت آل المقدسي ليطردهم00خرج نصف عاقل00متخففاً من الثياب00مزبداً كالجمل الهائج00 ولم يعترض طريقه سوى هواء الليل البارد الذي كان يلسع صدره العاري ويرفرف بسراويله الواسعة00وشدد قبضته على السوط تأكيداً لماسيفعل00 وعندما اقترب من البيت ألفاه مضاءً في دجى الليل00 وأصوات ساكنيه من الداخل تضحك في حبور00 وصوت سيدة المنزل تداعب أحد أطفالها في مرح00فخمد بركانه فجأة كماثار فجأة!! وخارت عزيمته00 وقهرت ثورته تلك الأصوات البريئة السعيدة التي لا تعلم عن عاصفته شيئاً!!
وأدركه تعب ثائر فسقط السوط من يده00واستند إلى جذع نخلة قريبة00وهناك وجد الجواب للسؤال الذي أحرقه00ولفت بقايا الظلام في داخله آخرأنفاسها00ظل مستنداً على جذع النخلة حتى انهدَّ مكانه في الحوض،كالجدار المهدوم وتكوم كالأنقاض00 شاعراَ بمزيج من الحزن اللذيذ00وأنه قد هرب من سجنه الذي أرهقه طويلاً، وآل إلى أفياء واسعة!وأمتعته الوحدة والليل00و زالت عن قلبه الأثقال00و أحس بجدول القناعة يتدفق لطيفاً، ويروي في فؤاده جذور سعادة جديدة00حقيقة00واحتبست فيعينيه دموع غزيرة!
وطالت جلسته في الحوض، ولم يعده إلى واقعه سوى أصابع صغيرة00باردة وناعمة00لامست كتفه من الخلف كان ذلك أكبر أطفال ذاهب المقدسي!
وفوجئ غياث به يقف خلفه ويثرثر في حبور:
-أنت الشيخ غياث!؟
لقد رأيتك في شق الباب وكان الباب مغلقاً00أمي لا تدعنا نخرج في الليل00لكني قفزت من فوق الجدار!
ثم سكت وبدون أن ينتظر تعليقاً من غياث قال:
-أمي ومعبد وموسى يحبونك ويقولون أنك رجل تقي وكريم وتعطينا من الثمار والطعام00
لقد كان عندنا مزرعة مثل هذه ولكن أبي باعها0وقال غياث:
-ما اسمك؟
-ميمون00
-لماذا خرجت يا ميمون في هذاالليل00؟ألا تخاف من البرد؟!
-خرجت عندما رأيتك00لم يرك إلا أنا!
ابتسم غياث ابتسامة حزينة،وقبض على الصبي وضم جسمه المهزول إلى صدره العاري وقال له:
-سارع إلى البيت وإلا أمرضك البرد0ومضى الصبي متسلقاً الجدار الذي هبط منه سعيدٌ مغتبطاً بهذا اللقاء القصير مع السيد العظيم مالك هذه البساتين0وتمتم غياث:
-ليتني أموت!!
ثم قفل راجعاً وقد أطلق العنان لدموعه المحبوســـة تنهمر كـ المطر


الوديعه 2011-09-23 1:45 PM

بسم الله الرحمن الرحيم



كانت الأيام التي تبعت تلك الليلة المحمومة التي اعتبرها غياث نقطة البداية في فجر حياته الجديدة00
حافلة بالأحداث فبعد خمسة أيام قضاها غياث بن عبد المغيث في كثير من الصمت والتفكير الهادئ في مستقبل حياته الجديدة،توصل إلى أنه لاحق له فيما ينعم به من المال وأن هذه الأملاك الواسعة والعبيد و الزروع وحتى جاريته الأثيرة على قلبه عطر،كلها ملك ورثة ذاهب المقدسي0 وأن عليه أن يسلم لهم كل شيء00بما في ذلك النصف المتبقي من الذهب في الخرج0لقد أمضى الأيام الأخيرة متأملاً في نفسه، وفي الشيء الذي يتدفق على قلبه في كسبه الطمأنينة التي لم يعهدها في أيام فقره أو أيام ثروته!

لقد عزم أن يصارح معبد بن ذاهب في كل شيء،ثم يمضي وحيداً خالياً00كما جاء وحيداً00
وكره بغداد وجوارها وآثر أن يذهب للقاء والديه،و ينطرح تحت أقدامهما ويسألهما الصفح،ثم يذهب إلى الثغور للجهاد في سبيل الله، فلم يعد شيء يهُّمه غير لقاء الله والرحيل عن الدنيا التي اكتشف مؤخراً أنها نواة الشقاء في حياته الماضية00واعتزم أن يصلح ما بينه وبينربه00واستولى عليه هم الآخرة00 وبذل دموعه بسخاء أسفاً على أيامه الخالية0وماكاد يصل إلى هذا الحد من التخطيط لمستقبله حتى أحدقت به الأخطار من جديد!!

فقدمضى في إحدى الصباحات الباكرة إلى البئر اليابسة التي قذف فيها بثيابه القديمة،وتدلى بحبل ونزل إلى القاع اليابس وبحث في التراب حتى وجد صرة ثيابه فاستخرجها وغسلها على شاطئ النهر00كأنه شاعرٌ أنه يغسل ماضيه0وجلس ينتظرها لتجف،ثم جمعهاوأراد الذهاب،لولا أن استوقفه وجه مألوف لديه فهتف في دهشة:
-مروان؟!!

و آسفه أن خنجره ليست معه00وقذف الصرة من يده وباعد بين رجليه استعداداً للعراك00 لكن مروان خاطبه بصوت يفيض بالحزن لا بالشر:
-نعم مروان00صاحبك في تلك الحجرة!

-إذاً فقد نجوت!؟

-نعم00 لقد وصلت إلى بغداد وعالج الطبيب جرحي00 وقد صدقت يا غياث فالجرح قد اخترق البطن ولم يمس الأحشاء00 هل تذكر عندما قلت لي ذلك؟!

وتأمله غياث فوجده كما تفارقا تلك الليلة إلا أنه أصبح مشموط اللحية بالبياض0 وقال مروان:
-لقد قضينا معاً ساعات عصيبة00وكتبت لنا النجاة من بين الآخرين أليس كذلك؟

فرد غياث وقد زاولته الريبة لكنه لم يكن راغباً في مواصلةاللقاء:
-لقد مضت تلك الأيام بخيرها وشرها0

-لولا جهودك يا غياث لما كنت أنامن الأحياء!

-لست في حاجة إلى إطرائك يامروان00بقدر ما أود معرفة سبب مجيئك؟!

-جئت للقائك00 وهذا كل ما في الأمر!

لم يكن بيني وبينك علائق ومودة00وقد مضيت أنا إلى سبيلي ومضيت أنت إلى سبيلك0

-قد لا تصدقني 00ولكن لاتسيء بي الظن فتقف وقفتك هذه00 وتحسب أني جئت لقتالك من أجل ذلك الذهب المأفون!!

وسكت قليلاً ثم قال بنبرة صادقة امتصت كثيراً من توتر غياث وتجهَّمه0

-يا غياث 00أنت فتى شجاع وقوي، والذي سيقاتلك سيكون الخاسر في النهاية!

-قلت أني لست في حاجة إلى إطرائك00؟

-لست في حاجة إلى إطرائي00ولكنك في حاجة إلى نصيحتي!

-وبماذا تريد أن تنصحني؟!

-أريد أن أحذرك من حنظلة00 هذا ما جئت من أجله0

-حنظلة!!
وأين هو حنظلة؟

-حنظلة في بغداد00ولم يتبقَ من أعدائك أحدٌ سواه0

-وأنت؟!

-أنا لست من أعدائك ياغياث00أنا أحس بالولاء لك منذ كنافي بيت الطين، ولولا حنظلة ما رأيت صفحة وجهي!

-وكيف عرفني حنظلة وهو لم يرني ولم يعرف اسمي؟أحنى مروان رأسه إلى الأرض وقال متلعثماً:

-لقد اضطررت إلى إخباره باسمك ومكان بستانك00تخبره عني وعن مكاني،ثم تدعي أنك صاحبي وأنك تودني؟!!

-أقسم لك بالله أني ما كنت لأفعل لولا أن هاجمني ليلاً في بيتي بالبصرة00ووضع خنجره على عنق أحد أولادي وهددني بذبحه مثل الشاة إذا لم أخبره عنمكان الذهب والأموال00ولم أصدق أنه ينوي قتل الصبي حتى رأيته يجرح عنقه بحد السكين جرحاً صغيراً ليؤكد لي أنه عازم على تنفيذ تهديده!

-ومتى كان ذلك؟

-قبل شهر0

-وكيف عرفت أنت مكاني واسمي؟

-اسمك عرفته عندما سمعتك تنطق به وأنت تقتتل مع سعيد00 ومكانك عرفته عندما رأيتك في بغداد موافقةً بعد أسابيع من ليلتنا تلك،وتتبعتك إلى البستان وسألت أحد مواليك فخبرني باسمك كاملاً،ولكنني كنت قد عزمت على أن أدعك وشأنك إكراماً لك على ما بذلت في سبيلي0

-ولكني لم أصنع شيئاً يستحق كل هذه التضحية منك؟!

-لا يهمني أن تشعر بمعروفك أو لا تشعر00 يكفيني أنني أعتقد هذا00ربما أكون لصاً وأحمقاً غبياً يا غياث ولكني لست وقحاً ولا جاحداً!

وفي خليط من المصانعة والتصديق قال غياث:

-أنت رجل طيب يامروان00سأعمل بنصيحتك00لكن قل لي لماذا لم يبحث عني حنظلة طوال تلك الأيام؟

-لأنه لايعرفك00ولأنه منذ ذلك الحين إلى أن هاجمني في البصرة وهو في السجن0

-لماذا سجن؟

-لقد لحقني عندما هربت بالفرس إلى بغداد،وشاء الله ألا يدركني إلا في بغداد، وحاول قتلي فصرخت واجتمع الناس عليه ليجدوني مشقوق البطن وهو ممسك بسيفه00فعلموا أنه يريد قتلي00 وزعمت أنه هو الذي طعنني فحملنا الناس إلى الوالي00وشهدوا عليه بما رأوا وحكم عليه أن يحبس عاماً كاملاً،وكرهه الخليفة وقد كان من مجالسيه فزاد في مدته بضعة أشهر0

-ولماذا لم يقتلك في البصرة وقد ظفر بك؟

-لو قتلني لعلم الناس بذلك،ولأخذوه لأنهم يعلمونما بيني وبينه من العداوة 00 ويعلمون أنه قد حاول قتلي في بغداد0وفي مخادعة قال غياث:
-وأين كان أخوك سعيد؟

-سعيد هو سبب شقائي00لقد بكيت عليه كثيراً وبكيت منه00إنه اليوم شرير ومسكين بائس!!
وقد افتقدته منذ ذلك اليوم الذي هربت فيه بالفرس00وظننت أنه قتل في الحجرة00فذهبت بعدما شفيت لأبحث عنه حياً أو رميماً00فماوجدت هناك سوى بقايا الحريق،وبحثت في الأنقاض فلم أجد شيئاً00فرجعت وسألت عنه في بغداد فلم يعرفه أحد،إلا شخص قال أنه رآه في السوق مرً ولم يره بعد ذلك!!

ومسح عبرة فرت من عينه ثم قال:
-وذهبت إلى البصرة أتلمس أخباره،فما ظفرت بأكثر مماظفرت به في بغداد00 ويئست وانكفأت على نفسي حتى جاءني من أخبرني أنهم وجدوه على شاطئ دجلة ميتاً متعفناً بالقرب من بيت الطين00وقد أخرجوا من جوفه ماءًكثيراً00فعلمت أنه مات غريقاً فهو لا يعرف السباحة00 وقد نجا من الغرق مراراً لكن تلك كانت الأخيرة0

-ولماذا دخل النهر وهو لا يعرف كيف يسبح؟

-ربما ذهب لاستخراج الذهب الذي قذفت به في قاع النهر!

ثم مسح دموعه ثانية، وأسهب في الكلام عن سير شقيقه وقد وجد في ذلك عزاء له:
-لقد مات أبي وأنا في العشرين من عمري،أماهو فكان في سن الخامسة00 ولم يكن له عائل إلا أنا00وطفقت أعمل لأعيشه وأعيش أهلي ووالدتي ثم أولادي فيما بعد00 وعندما كبر حاولت مراراً أن أشركه معي في أعمالي00لكنه بدأ يصاحب اللصوص والمنحرفين،وحاولت ثنيه عما فيه00وبدلاً من أن أرده إلى جادة الصواب استجرني هو،وبدأت أشاركه طريقته وسرقاته!



الوديعه 2011-09-23 1:50 PM

بسم الله الرحمن الرحيم


ابتسم غياث بعد تجهمه الطويل وقال:
-لكنك لا تبدو فاتكاً ماهراً مثله!؟

-أنا رجل أحمق وساذج00والسطو والاحتيال ليس من طبيعتي لكنها الغواية00 وقد أردت إثبات جدارتي أمام اللصوص، فاستوليت على الجمل الذي به الأموال لأستأثر به لنفسي ولأخي، فجنيت عليه وعلى نفسي وصارت الأموال من نصيبك0
-أنت حاولت و..
-لا تقل أنك ستعطيني بعض الأموال00فلم تعد لي حاجة في كثير أو قليل من ذلك00وقد تركت هذه الأعمال التي لا نتاج لها سوى الدماء والمصائب0 وأنا لم أجيء طامعاً في غنائمك يا غياث إنما جئت أحذرك من حنظلة فإنه سيظهر لك قريباً0
-سأعمل بنصيحتك يا مروان 0وأحنى مروان رأسه إلى الأرض في كدر،
ثم مد يده إلى غياث قائلاً:
-سأذهب فلم تعد لك حاجة بي0ومد غياث يده وودعه وتابعه حتى غاب عن نظره، ثم حمل صرة ثيابه ورجع0
مشى إلى بستان آل المقدسي متكاسل الخطى، يحرث الأرض بنظراته واتجه إلى القصر00وعند الباب صادفه سريع وأخبره أن رجلاً سأل عنه في غيبته فقال غياث متبرماً:
-إذاجاءك ثانية فبعه ما يشاء من الثمار فلا حاجة لأن أقابله0
-إنه شخص غريب لم يأتِ لشراء شيء!
فسأل غياث وقد قرن مابين حاجبيه:
-هل قال إن اسمه حنظلة؟
-لم يذكر اسمه يامولاي0
-إذا جاء ثانية00هو أو سواه00فادعني بدون أن يعلم0
فقال سريع بصوت خافت:
-هل هو عدو؟!
-إنه من جماعة السجين الذي هرب0وبدون أسئلة أخرى هزَّ الشيخ رأسه مؤذناً بالطاعة ثم انصرف0وجمع غياث بعض حاجياته ثم تذكرأنه لم يكن يملك منذ طرده والده سوى ثيابه فرد الحاجيات إلى مكانها00 وتمكنت منه النزاهة والورع فخلع ثوبه الفاخر ولبس أحد ثيابه القديمة!
وأرسل أحد مواليه للبحث عن معبد بن ذاهب المقدسي ثم جلس يفكر فيما هو مقدم عليه00 وسمع حفيف ثوب بالقرب منه فألتفت ليرى عطر مبهوجةً بلقائه00وقد آسفه منظرها وأحس بالرثاء لهالعلمه بمكانه من قلبها00 وقالت له معاتبة:
-لقد تغيرت يا مولاي؟!
فقال بهدوء:
-وماذا تريدين؟
-لقد أصبحت محزوناً تذهب وحدك ولا تخبر أحداًبوجهتك،وتغيب طويلاً ثم تعود مريضاً 00 أو تغلق على نفسك باب حجرتك!!ولم تكن هكذامن قبل!!

فقال تمهيداً لإنزال الخبر الثقيل عليها:
-وهل يسوؤك هذايا عطر؟
-نعم00أنت لا تدري كم يسوؤني ذلك!
فقال بنبر جادة:
-وما يدريك لعلي بذلك أهيئك لفراق سيحل بيننا!؟
فقالت باسمة وقد حسبته يمازحها:
-لن نفترق حتى لو ذهب أحدنا إلى أقصى الدنيا!
فقال بتجهم وقد تذكر الثغور وطلب الشهادة:
-وإذا رحلت أنا إلى مكان لا يوجد في الدنيا؟
-سألحق بك0فقال بما يشابه الابتسامة:
-هل ستقتلين نفسك؟
-وهل ستقتل أنت نفسك؟
-لا00لا يصح أن يقتل الإنسان نفسه،ولكن يبذل روحه في سبيل الله0
-هل تعني الجهاد؟
-نعم0وقارنت بين هذه الغاية السامية وبين سيرة غياث بن عبد المغيث العابثة ولهوه السابق
فقالت على الفور:
-ولكنك لست بصاحب هذه الأمور؟!
-لقدأصبحت من أصحابها إن شاء الله0
-هل تعني ما تقول؟
-نعم00 أنا جاد فيما أقول وسأرحل قريباً0
-هل تذهب لتموت؟!
-بل لأبحث عن الشهادة0وسكتت قليلاً وقد تيقنت أنه جاد فيما اعتزم00 وأن ما مر به من أحداث غريبة في الأيام الماضية كان إرهاصاً لتوبته
وقالت مشفقةً:
-لماذا لا تؤجل سفرك إلى حين؟
-ولماذا التأخر؟!سأمضي وأحارب لعلي أعمل عملاً يرضي الله فيرضى عني0
وتسرب الجزع إلى قلبها فسألت:
-وإلى من ستتركني؟
-أنت هنا عند أبيك00 وعند00وسكت مطرقا ًإلى الأرض
فسألت في هم:
-وعند من أيضاً؟
-عند سيدك الجديد0
-هل بعتني إلى أحد يا مولاي؟
-لم أبعك إلى أحد ولم أعد مولاكِ؟
-إذاً ماذا في الأمر؟!
-أنا ياعطر00 كنت لصاً00وقداشتريتك بمالٍ مسروق00 وكل ما في الأمر أني تبت إلى ربي وسأرجع المال المسروق إلى أصحابه0
-ومن هو صاحبه؟
-معبد بن ذاهب00وأسرته0
-معبد المقدسي!هذا الأجير الذي يعمل عندك؟!
-لم يعد أجيراًعندي00وكل ما ترين من الزروع والبساتين والأموال ملك له ولأسرته00وأنت من ذلك00وقدكان في قصة طويلة

الوديعه 2011-09-23 1:51 PM

بسم الله الرحمن الرحيم
ستعرفينها فيما بعد0
وأخرست المفاجأة لسانها0فقال يواسيها:
-و أبشري فمعبد فتى شجاع 00وعاقل0
وأضاف مبتسماً:
-وجميل!
وأجهض أزيز بكائها ابتسامته وعاتبته من بين دموعها:
-ألايعز عليك أن تتركني هكذا؟!!
-بلى يعز علي00 ولكني آليت على نفسي ألا أضع في يدي إلا مالاً حلالاً من كسب يدي0
-لماذا لا تشتريني منه؟
-أنا لم أعد أملك غيرثيابي التي على ظهري00والتي في هذه الصرَّة!
فالتفتت إليه وقالت بانفعال:
-اسمع00سأسأل معبداً أن يهبني لك؟
-لا أحب ذلك ولا أميل إليه 0
-إذاً سأشتري نفسي منه بدراهم منجمةً كل شهر أهبه ما أتحصل عليه00وسأذهب إلى بغداد عند زوجة سيدي الأول وسأعمل هناك00 فأنا أتقن الحياكة والدبغ والغزل00 وإذا أصبحت حرةً نتزوج وأذهب معك إلى حيث تريد0

-غير مجدٍ كل هذا 00 فأنا لن أستقر في مكان ولن آوي إلى بيت مريح00 سأعيش حيناً في خيمة وحيناًعلى الأرض أو في كهف00كما عشت ما مضى من حياتي شقياً00سكيراً 00عربيداً00وعققت والدي00وقد رأيت بنفسك أطرافاً من حياتي الشائنة00وشهدت أيضاً توبتي وقد أبصرت في الإيمان لذتي وهناءتي التي أبحث عنها00فأصبحت الدنيا مثل السجن لي00وأنا ألتزم الهروب من هذا السجن0
-لكن كل هذا لا يستدعي أن نفترق!!
فبإمكانك أن تعيش في بغداد صالحاً وتقضي أيامك هناك تائباً!؟
-بإمكاني ذلك00 لكني كرهت بغداد وكرهت الدنيا00أنا أحس بصوت يناديني00يدعوني إلى الدار الآخرة وأنا أريد أن أغتسل من ذنوبي بالجهاد حتى أموت وأنا مرتاح البال0

وتساقطت دموعها وقد أعيتها الحيل وامتنعت عليها الكلمات فصرخت في وجهه:
-بل أنت لا تريدني!
وسكت محزوناً وقامت من عنده على عجل00 وأطرق إلى الأرض00فيما دخلت إلى أحدى الغرف ناشجة ببكاء مر0
وقف غياث على باب القصر وفي يده خرج الذهب وفي الأخرى صرة ثيابه00وتأمل البيت الكبير قليلاً00 ثم جعل يجول بين عرائش العنب00ومضى إلى أرض القمح والفواكه يتأملها كأنه يراها و لأول مرة!

ثم جال بينات النخيل00 وكان العبيد يعملون في الحقول00وقد ضاعفوا جهدهم عندما رأوه00وسريع يتسكع ببطء ويشرف على كل شيء00

وأحد الخدم يجمع مخلفات الشجر وأغصان الصدر الصغيرة ويلقيها في محجر الأحراق المربع تمهيداً لحرقها0
وانتهى بغياث المطاف في دار معبد في طرف البستان00ووجد الصبيان يلعبون قبالة البيت00 وعندما رأوه كفوا عن اللعب وفر بعضهم00وخرج موسى شقيق معبد واستقل سيدالبستان محتفياً وأدخله إلى الدار وسأله بخجل:
-هل أستدعي معبدا ًيا سيدي؟
فقال غياث بكآبة:
-نعم فأنا أبحث عنه0وخرج الفتى من الحجرة00وبقي غياث يفكر فيما سيقوله لورثة ذاهب المقدسي00وكيف يواجه حنظلة00 وهل يمضي لسبيله ويفسح المجال لمعبد وشقيقه وأسرته لينتقموا من قاتل أبيهم00أم يبقى ويساعدهم!؟
وهل سيتركونه بدورهم يمضي لسبيله أم سيعمدون إلى اعتقاله والانتقام منه لأنه ساهم في إشقائهم؟!
ودخل معبد مرحباً بضيفه الكبير ولم يستطع إخفاء دهشته وهو يقلب بصره في غياث مستغرباً هذه الأكياس التي يحملها وهذه الثياب البالية التي حلت بديلاً عن تلك الجبة الفاخر والثياب الثمينة!! وهذه الطاقية الخلقة التي صارت مكان تلك العمامة الخضراء المطعمة بخرزة كبيرة فوق الجبين!!
وفطن غياث لدهشته فابتسم وقال:
-ربما استغربت زيارتي يا معبد!؟
فقال الشاب مدارياً خجله:
-لم أنتظر أن تكرمني بهذه الزيارة00ولو أرسلت إليَّ لأخذت أُهبتي00 فالبيت دائماً مبعثر وهؤلاء الصبيان لا يتركون شيئاً في مكانه0

فقال غياث:
-هذا العبث للأطفال لابد منه00 إنه صباهم0ودخل موسى بشيء من الفاكهة فلما وضعها هم بالانصراف لكن غياث استبقاه قائلاً:
-اجلس ياموسى00حديثي لكم جميعاً0وجلس موسى وساد الصمت قليلاً00واحتار غياث كيف يبدأ00لكن معبد أسعفه حين قال:
-لقد جاء الرجل الذي حدثتك عنه00والذي كان صاحباً لأبي00وسأل عنك فقلت له اذهب إلى القصر ظناً مني أنك هناك0
-تقصد حنظلة؟
-نعم00هل جرت بينك وبينه معرفة؟
-أنا لم أره فيحياتي00 لكني أعرفه تمام المعرفة
-كيف كان ذلك؟!
-أريدك أن تريني إياه دون أن يراني0
-حسناً سأفعل ياسيدي00 لكني سأعيد لك كلامي فيه00فأنا أحذرك من مصاحبته00ولولا أنه جاء يطلبك اليوم لطردته من البستان شر طردة!
-بل أنا من يحذرك منه00 إن الذي قتل والدك هو حنظلة00وهذا الخرج بما فيه من الذهب الخالص،وهذه الزروع والبساتين والعبيد والأموال كلها لك ولأسرتك0والتفت الشابان إلى بعضهما وقد شلت الدهشة تفكيرهما00 وعقدت المفاجأة ألسنتهما عن الكلام00واعترت غياث رعشةً باردةً فأستند إلى الجدار متعباً ومضى في سرد قصته الثقيلة كاملة غير منقوصة ....
أقتربت النهاية

الـ شُـمُـوخْ 2011-09-24 6:52 AM


جزااك الرحمن بالجنـــآن
موفقه يارب

لي عوده للقراءه بإذن الله


الوديعه 2011-09-24 10:57 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الـ شُـمُـوخْ (المشاركة 2939589)

جزااك الرحمن بالجنـــآن
موفقه يارب

لي عوده للقراءه بإذن الله


أمين يارب العالمين
وجزاك الله بالجنه ايضا
الله يعطيك العافيه ان شاء الله الروايه تكون اعجبتك

الوديعه 2011-09-24 11:02 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


اليوم مع اخر فصول الروايه وان شاء الله تكون نالت رضاكم


:smile::rolleyes::biggrin::redface::wink::tongue:: cool:


الوديعه 2011-09-24 11:04 AM

بسم الله الرحمن الرحيم

مضى سائر ذلك اليوم بطيئاً ثقيلاً على آل المقدسي مشبعاً بالوجوم والدموع00
وقضوا نهارهم وجزءاً من ليلهم في خليط من الغبطة بعودة أموالهم المنهوبة وحزن ثقيل لتجدد ذكرى عائلهم المغدور،وحقد شديد على حنظلة وأصحابه الذين أجهزوا على والدهم وحاولوا سرقة ثروته0لكن الحيرة كانت مستولية عليهم تجاه غياث بن عبد المغيث، هذا الشاب الذي شارك في شقائهم طوال هذه المدة،ثم نمت في قلبه الحياة،فرد الأموال المغتصبة في قناعة وورع!

إنه لم يفر ولم يطلب العفو خانعاً بل قال في شجاعة!
إنه سيبيت الليلة في القصر، ثم يرحل من الغد إلى الثغور للجهاد في سبيل الله ، وسيذهب إلى قريته الممرة ليلتقي بوالديه ويطلب رضاءهما إن وجدهما00
فإذا كان آل المقدسي يريدون حبسه أو رفع أمره إلى الوالي في بغداد فذلك لهم وسيمضي معهم قانعاً وطائعاً غير كاره!

وتأملوا حاله وكلامه، فلم يلبثوا حتى أدركوا أنه يستحق الشكر لا العقاب00لقد حافظ على الأموال التي نمَّاها بالتجارة00 وعندما تاب إلى ربه وتنزَّه عن الحرام أرجعها إليهم كاملة!
وقد كان بإمكانه أن ينعم عليهم بالقليل إرضاءً لضميره00ولكنه آثر أن يخرج منها كلها00حتى إنه خلع جبته الفاخرة وعمامته وخاتمه00ولم يأخذ سوى ثيابه التي جاء بها إلى بغداد!

أما غياث فلم ينم تلك الليلة في القصر، بل نام عند سريع عبده السابق في لحاف رخيص00لقد أخبر سريع بكل شيء وأمره أن ينشر الخبر بين كل الموالي00ويؤكد لهم أنهم لم يعودوا ملك يمينه بل صاروا كلهم وما يرونه من الزرع والدواب والمال ملكا
لآل المقدسي0وآوى إلى فراشه تلك الليلة راضي النفس00منشرح الصدر00 يحس أنه لم تمرعليه في حياته الصاخبة ليلة أسعد من هذه الليلة!!
وقبل أن يأخذه النوم00دخل عليه شخص يحمل مصباحاً فأضاءت الحجرة بنور المصباح00

وتكلم الداخل في أدب:
-هل تأذن لي بالدخول يا سيدي؟

وعرف غياث صوت معبد فجلس في فراشه وقال باسماً:
-ادخل00فلم أعد سيداً لك ولا لغيرك0

-لقد ازدادت مكانتك عندي يا غياث بن عبد المغيث00جلس معبد ودخل معه أخوه موسى ثم أعقبهم سريع00 ودخلت أم معبد متلفعة وجلست في ركن قصي من الحجرة00

وقال غياث مداعباً:
-لقد كثر ضيوفك هذه الليلة يا سريع!

فرد معبد بجد وصدق:
-بل كلنا ضيوفك ياغياث00فأنت صاحب أفضال علينا!

وقالت أم معبد بصوت خافت:
-لقد أرجعت الحق إلى أهله 00وما جئنا إلا لنشكرك0

فقال غياث باسماً:
-لأول مرة00أرى لصاً يسرق قوماً فيشكرونه!!

وقال موسى:
-لقد كان بإمكانك يا سيدي أن تحتفظ بهذه الأموال بدون أن تخشى مطالبة أحد00لكنك انتزعتها من اللصوص وحفظتها لأهلها0

-لو استطعت إبقاءها في حوزتي لفعلت00لكني عجزت عن ذلك!!

وتحدث معبد قائلاً:
-لقد أتينا إليك هنا لنقول لك أننا قد وهبناك نصف المال الذي في الخرج00فلولاك ما عاد من هذه الأموال درهم واحد!
قالها ورفع السراج لتتبين له ملامح غياث متكدراً00

وقالت أم معبد:
-لقد وهبناك هذا بنفوس رضيًّة0

فأجاب غياث بصوت عميق ووجه مبتئس:
-لا أريد شيئاً0

فقال معبد:
-إذا كان إرضاؤنا يهمك فخذ المال!

-لا أريد شيئاً0

فقال بتصميم:
-إذا أبيت00فستأخذ الربع0

-لا أريد شيئاً من هذا البتة!

وهتفت أم معبد من ركنها:
-إذاً فلتأخذ أرض القمح00وتكون جاراً لنا فلن نجد خيراًمنك0فلم يزد غياث على أن قال كلمته العنيدة!!

وتحدث موسى مجرباً حظّه:
-إذاً فخذ من المال ما يكفيك لإقامة تجارة وخُذ من العبيد ما شئت ليكونوا لك0

-هذه مكرمة منكم00لكنني لن آخذ شيئاً!

فقال موسى بما يشبه الغضب:
-لابد من ذلك00ولوكنت كارهاً!

فرد غياث بحدة:
-قلت أنني لا أريد شيئاً من المال00أريد أن أمضي إن لم تكن لكم حاجة بي0واحترموا إرادته فصمتواطويلاً00

وخرجت أم معبد وتبعها ابنها موسى00وقال غياث لمعبد بدون أن ينظرإليه:
-اجعلوني في حلٍ مما أكلت من أموالكم0

-أنت في حل ياغياث00وسنظل نذكركما حيينا0

-هذا معروف تسديه لي فما عدت أحمل هماً إلا أن أموت مخفاً سالماً مماللناس0

-بقي لي حاجة عندك يا غياث أرجو أن تقضيها؟

-ما هي؟أن تترك هذاالمكان الضيق وتذهب لتنام في فراشك الذي كنت تنام فيه بالقصر0

-القصر!!لم يعد ليحقٌ في القصر!

-أنا صاحب القصر00 وقد أذنت لك00

-هذا الفراش أحب إليّ00

-أريدك أن تجعل القصر منطلقك، وأنت تترك هذه الأماكن مثلما كان مؤملك عندما جئت إليها00فلا تحرمني فرصة إكرامك ولو بالمبيت0

-لك ذلك00ولكن لا تطلب مني شيئاً غيره0وحمل غياث ثيابه،ومضى إلى القصر يتبعه معبد وسريع

0وعندما دخلا القصر المضاء ببعض السرج00اتجه غياث إلى غرفته وودعه معبد وخرج لكنه توقف عندما اعترضته امرأة وجثت عند ركبته متوسلة:
-أرجوك يامولاي00دعني أذهب معه00

فقال معبد بيأس:
-لقد أبى أن يأخذ منا شيئاً يا عطر!

-إنه عاجز عن المال فلو وهبتني له لقبل منك0وقضم الشاب شفته السفلى وبدأ متردداً ولمحت عطر الكدر في وجهه فعلمت أنه يريد بقاءها فلم تيأس وقالت:
-إذا تركتني له فتلك شهامة منك00سأظلأشكرك عليها0

-إذا رضي أن تذهبي معه فأنت له0

-كلمه يا مولاي علَّه يستجيبلك

رجع معبد إلى حجرة غياث وتبعته عطر وبقيت قريباً من الباب وابتدر معبدالقول:
-ياسيدي00لقد جاءتني00

وقاطعه غياث:
-عطر00أليس كذلك؟

-نعم00لقد رجتني أن أهبها لك وأنا موافق0

-إنها فتاة كريمة ومهذبة0

-ما كنت لأرغب عنها00لكنها اختارتك!

-ولا أدري لماذا؟! لكني أتمنى أن تجد راحتهاعندك0

-إذاً فأنت ترفضها؟

-أنا لم تعد بي حاجة إلى شيء من متاع الدنيا فقد وجدت ما أسعدني واكتفيت به0

-أنت تضيق على نفسك بهذا!

-بل لَمْ تذق نفسي السعة إلا اليوم00 فقد كنت مسجوناً ثم وجدت حريتي ولا رغبة بي في السجن ثانية!

-ستكسر قلبها بهذا الرفض!

-قل لها أنني عازف عن الدنيا00وكل أمنيتي طعنة أو سهم يغفر الله به خطيئتي0

-لقد ألحت عليَّ في الطلب؟!

-لو كنت أنوي الاستقرار لفكرت في شأنها00غير أني لا أشتهي سوى الرحيل0

-ستحزن كثيراً00

-بل ستنسى عاجلاً فهي مازالت صغيرة0وسكت الرجلان000وتناهى إلى سمعهما صوت عطر وهي تدلف إلى داخل الدار مسرعة باكية فأحنى غياث رأسه في أسى وصمت بينما استأذن معبدوانصرف0


الوديعه 2011-09-24 11:06 AM

بسم الله الرحمن الرحيم

في الصباح وبعد أن صلى الفجر جلس غياث وحيداً في مصلاه مستقبلاً القبلة0وكان الضياء قد اكتسح الكون وتجلى الظلام وسمع غياث حركة خلفه عند الباب فالتفت بهدوء ليشاهد رجلاً غريباً ضخماً بثياب فاخرة ولحية موفورة الشعر مشموطة بصباغ أزرق00وملامح قاسية00وكان بادي النعمة والترف00وقد قبعت تحت حاجبيه عينا ذئب تدوران في محجريهما بحثاً عن فريسة!






تحدث الرجل هازئاً بصوت غير منخفض:
-لص محتال00يدعي التقوى ويصلي!؟

لفترة ظل غياث يتأمل الداخل بعين ثاقبة00 فلم يتوقع أن يدخل عليه حجرته رجل غريب،وبدون استئذان00إنه يراه لأول مره لكن بسماع صوته الهازئ عرفه في الحال فهو نفس الصوت الذي كان يصدر الأوامر حين كان محاصراً برفقة مروان وسعيد في بيت الطين على شاطئ دجلة!

ولم يشك لحظة أنه حنظلة00مدبر كل المآسي السابقة00وقاتل ذاهب المقدسي00كان غياث يجلس في أقصى الغرفة الواسعة00 أماالرجل فكان يقف في الطرف الثاني قريباً من السرير الذي كان ينام عليه0

وتحرك غياث ليقف فنهره الرجل بشدة قائلاً:
-إذا تحركت قتلتك!

ورفع جانب جبته الطويلة كاشفاً عن سيف عريض قصير00 مؤكداً لغياث عزمه على تنفيذ تهديده فيما لو حاول فعل شيء!
وأول شيء فكر فيه غياث هو المسافة التي بين مكانه وبين سيفه السابق المعلق على الجدار قريباً منه00لقد اعتزم القتال00فهو لا يهاب أبداً،ولا يخشى الموت، و إن كان يتمنى أن يكون مماته في ساح الجهاد لا بيد مجرم مأفون، ومن أجل عرضٍ من الدنيا0

وتحدث الرجل:
-لا شك عندي بأنك غياث بن عبد المغيث00لقد كنت أتتبعك وقد علمت أنك تنام في هذا المكان00لقد تقاتلنا طويلاً يا غياث بدون أن نتقابل!

ولم يتكلم غياث فقال الرجل وهو يدير عينيه القاسيتين في الرياش الثمين والجدران:
-قصر جميل00وقد استمتعت بما فيه الكفاية00 وقد آن الأوان بأن ندفع المال إلى صاحبه إذا كنت تريد حياتك00!؟

فقال غياث بهدوء أزعج الرجل:
-لقد أرجعت المال حقاً إلى أصحابه0

-أنا صاحب المال00وأريدك أن تدلني على مكان الخرج الثاني من الذهب00فقد علمت من مروان أنك أسقطته في عرض النهر00 أما ما تحت يديك منالأرض والزرع فهو لك0

-هذا المطلب ليس جديداً00فقد سألني منه سعيد قبلك فمات قبل أن يحصل عليه00وربما تموت أنت مثله أيضاً!

استشاط الرجل غضباً وقال:
-لقد كان سعيد وأخوه مروان أحمقين جبانين00 وقد عرفت محبس سعيد،فأنا لم أترك موضعاً في هذاالبستان إلا نبشته00وكنت أظن سعيداً كفؤاً للقتال والمواجهة فوضعت عنده أثناء نومه ما يفك به قيوده رجاء قتلك،لكن تبين لي أنه ضعيف وخائر!
أما أنا فخلاف ما تظن00

كان يتكلم مرعداً مغروراً مما أغاظ غياث فقال متحدياً:
-لن تفعل أكثرمما فعل00

-إني أحذرك00 فأنت لم تعرفني بعد لذا تقول هذا الكلام00!؟

فقال غياث بهدوء وشجاعة:
-بل أعرفك00 فأنت حنظلة00 المجرم الغادر الذي قتلت صاحبك ذاهب المقدسي ورجاله00وأفقرت أهله من بعده في فعلة لا تليق إلا بمثلك!!

-أنت أحمق وعنيد!!لقد كنت أعقدُ الآمال على لقائنا هذا يا غياث بأن يأخذ كلٌ منا نصيبه ويمضي لشأنه،فإذا بك تعيرني بما كسبته أنا بيميني وسيفي00وأخذته بعد ذلك بغدرك وخيانتك من رجل جريح وعاجز وغبي!

-لقد تبت إلى ربي ياحنظلة00وخرجت من هذا كله بثوبي الذي على ظهري، أما ما تبقى من الذهب في الخرج الثاني فقد استخرجته من قاع النهر بعدما هلك سعيد في سبيله وقد سلمته هو وكل الأرض والبساتين والتجارة إلى آل المقدسي ليلة البارحة00 وأنا أدعوك أن تتوب إلى رشدك وتتوب إلى ربك قبل أن تغتالك المنية وأنت على ظلمك0

-هل سلَّمت كل المال لهم!!؟

-نعم00فما كنت لأدخل جوفي مالاً حراماًوقد هداني ربي و بصرني بجرمي!

-ياوقح00الأموال لي00قلت أني كسبتها بسيفي00 وقد كان ذاهب يستحق ما جرى له،فقد فسد عليَّ الخليفة وزهَّده منَّي0

-وما شأني أنابهذا كلَّه؟!

-لقد أفسدت جهودي00وقتلت رجالي00وتسببت في سجني00ثم استوليت على المال كله00وتسأل عن شأنك بذلك!!

-لقد رحم الله آل المقدسي فحفظ أموالهم بي00ثم رحمني بعد ذلك وطهر يدي من أموالهم0

وبصبر نافذ سأل حنظلة غير مصدق مايسمع:
-أين الأموال والخرج الذي استخرجته من النهر؟

-ألا تعقل!؟قلت لك أني سلمتها البارحة لأصحابها!!

-إذا لم تكف عن عنادك فسأقتلك00وأقتلهم جميعاً00وأحرق هذا البستان على من فيه فلا أحد يقف في وجهي!

ونهض حنظلة ملتاشاً بالحقد00وقفزغياث إلى سيفه و انتزعه من الجدار وسلَّه00

فقال حنظلة في استعلاء:
-لا تهلك نفسك00فأنا لا أهزم؟

-سينصرني الله عليك0

-اسمع00إني أهبك حياتك مقابل ماطلبت00؟

-لقد أخذ أهل المال مالهم،وليس لك عندي غير هذا السيف!

والتحم الخصمان في قتال طال التحفز له،فجاء عنيفاً شرساً!كان حنظلة شديد المهارة00ثقيلاً00قوياً00يفوق غياث في المبارزة00وكان غياث أخف حركة00وطالت معركتهما00وبدا لغياث أن خصمه لن يتعب أبداً،ولو قاتل لعام كامل!!

و كانت قعقعة السيوف تمزق السكون في جنبات القصر00فحضر الخدم00وتصايح النساء00وفزعت عطر لمرأى القتال00وجاء سريع لكنه لم يجرؤعلى التدخل00وانطلقت عطر راكضة عبر عرائش العنب،وأحواض النخيل حتى وصلت إلى بيت آل المقدسي00 وطرقت الباب بعنف وخرج لها معبد مدهوشاً فصاحت به لاهثة:
-أدركنا يامولاي00رجل غريب يقتتل مع غياث بن عبد المغيث!

فتمتم معبد:
-إنه حنظلة ولاشك00وصاح بأخيه:

-ياموسى00إنه قاتل أبيك!

وركض الشابان بسيفيهما تجاه القصر00تتبعهما عطر00ورآهما بعض العبيد فلحقوهما ومعهم عصي وصخور!

و تفصد العرق غزيراً من جسد غياث وبدأ التعب يسري في أوصاله،وقبل أن يصل معبد ومن معه إلى الحجرة تمكن حنظلة من الإطاحة به،ولم يتردد في أن يطعنه في خاصرته بحقد!

ووصل معبد وأخوه ومن خلفهم من الرجال00 واكتشف الشابان أنهما تأخرا في الوصول00 وقعت عين حنظلة على عيون أبناء ضحيته،ورأى نظرات الثأر في أعينهما

فتكلم متصاعد الأنفاس:
-لقد نال هذا مايستحقه00أما أنتما فابتعدا خيراً لكما00

وزمجرمعبد:
-الويل لي إن لم أقتلك!

وهتف شقيقه محمر الوجه:
-يا غدار 00أحدنا سيخرج حياً!

وتقدم الخدم بعصيهم وصخورهم وارتعب حنظلة فتراجع وهويهدد:
-ارجعا 00وإلا ستلحقا بأبيكما!

وهجم عليه موسى يتبعه معبد وجرح حنظلة موسى في لحظات جرحاً صغيراً، وبارز معبد قليلآ ثم آثر الفرار فلطمه لطمةً دفعته بعيداً ثم انطلق هارباً00مخترقاً جداراً من العبيد الذين خافوا سيفه فاكتفوا بقذف رجليه ورأسه بالحجارة فولى وهو يعرج وينزف دماً0ونهض معبد متأخراً ولحق بهوتبعه الأخرون00تاركين غياث وقد انكفأت عطر تسقيه الماء وهي تذرف دموعاًبصمت0

وفي هذه الأثناء كان الخادم الموكَّل بإحراق مخلفات البستان قد ملأ محجرالإحراق بالمخلفات والجريد اليابس،وذهب إلى غرف العبيد ومكث هناك قليلاً ثم رجع حاملاً معه جذوة مشتعلة00ومشى حثيثاً حتى لا تنطفئ بيده00ولم يكن يعلم بما يجري في البستان والقصر00وقذف بالشعلة الملتهبة إلى محجر الإحراق 00ووقف يستمتع باللهب الذي استطال سريعاً00مطقطقاً إلى عنان السماء00لكنه تراجع فزعاً عندما دوَّت صرخات بشعة00متتالية من جوف النار العظيمة!!

وتحركت أجزاء من الجريد المشتعل،ووصل معبد ورفاقه إلى صوت الصراخ00لكن الصرخات استحالت إلى فحيح متحشرج، ثم خفت شيئاً فشيئاً،ولم يعد يسمع سوى صوت اللهب وهو يلتهم الجريد والأغصان الصغيرة ومن بداخلها!!

وجثا الخادم المفزوع على ركبتيه رعباً وهو يقول:
-لقد رأيت جسماً ملتهباً يتخبط وسط الأكوام المشتعلة وسمعت زعيقاً منكراً!!

وأحنى معبد رأسه وقال موسى:
-لقد كان حنظلة يختبئ في محجر الإحراق!!لقد نال جزاءه!!

وخمدت النار سريعاً وبكى الخادم وأحاط به زملاؤه فقال وهو يرتعش فزعاً مما سمع وشاهد:
-لم أكن أعلم أن أحداً كان يختبئ داخل المحجر!!؟

وتقدموا من جدار محجر الإحراق00 لكن لم يكن هناك سوى جمر مشتعل وبقايا جسد متفحم
!!!



الوديعه 2011-09-24 11:08 AM

بسم الله الرحمن الرحيم

النهايـــــــــه


أمر معبد بإخراج جثة حنظلة وتغطيتها لحين دفنها00
ورجع هو وأخوه إلى حيث تركوا غياث ووجدوه قد أخرج من القصر إلى الدكة التي قبالته وقد فرش له وأسند00كان يضع يده على خاصرته00 وكانت ثيابه الرخيصة وأكمامه مصبوغة بحمرة زاهية0

جلس معبد عند رأسه00 ووقف الآخرون قريباً منه00وقالت عطر في صوت مبحوح:
-لقد بقر الرجل بطنه00لكنه مازل حياً0وأحضر بعض الخدم لفافة وإناء ، فأخذها معبد ورفع يده برفق وجعل يمسح خاصرته بالماء وينظف موضع الجرح00كان الشق واسعاً غائراً00مخيباً للآمال!

فقام بتضميده وربطه ثم سأل عطر:
-هل طلب شيئاً؟

فقالت:
-لا0

وانحنى معبد عليه بشفقة وقبلَّه وهو يظن أنه نائم00

لكن غياث حرك شفتيه الجافتين وقال بخفوت:
-إنك كريم00إذ تقبل لصاً سرق مالك واستمتع به!

وهمس معبد له:
-لاتتحرك00ولا تتكلم فتزداد آلامك!

-إن الألم لايهمني00فلم أعد أحفل بالحياة0

-لا تقل مثل هذا00!

-أظنني سأرحل00وحسبي أن أموت وقد تبت وطهرت يدي من الحرام0

-ستعيش بإذن الله0

-لا تأمل كثيراً00فأنا أحسب أني سأجد راحتي بعد قليل00فاجعلني في حل00

-أنت في حل0

-حسناً00أريدك أن تذهب إلى قريتي الممرة وتبحث عن والدي وتطلب لي الصفح منهما وتخبرهما قصتي0

-سأفعل00وماذا أيضاً؟

-لا شيء0وصمت معبد ولم يتكلم أحدٌ لفترة وقطع الصمت غياث وهويستقيم من رقدته ويقول في عزم:
-هات ثيابي وأحضر لي فرساً00سأستعيرها منك ثم أردها لك إذا وصلت0

فسأل معبد مستغرباً:
-وأين ستذهب؟!!

-سأذهب إلى الثغور00

-وأنت في هذه الحالة؟!!

-نعم00 ستربطني إلى الخيل بحبل ولن أسرع00وسأصل بإذن الله0

-هل جننت؟!لن أفعل ذلك أبداً!!

-بل ستفعل00وإلا ذهبت على قدمي!

وتحرك مؤكداً عزمه على الرحيل مما اضطر معبداً إلى تهدئته و أرسل في طلب فرسه السابقة00ولما رآها غياث تناول صرة ثيابه وقال:
-هيا احملوني عليها0

فقال معبد محاولاً ثنيه:
-انتظر حتى تشفى ثم00 اذهب00

فقال غياث بيأس:
-يكفيني أنني شفيت من الحياة!

وصمت قليلاً ثم قال وقد تدحرجت على خده دمعة كبيرة0
-أحب أن يراني الله وأنا أسعى مقبلاً عليه لعلًّه أن يرحمني ويمحوعني مافعلت0

-إذاً سأرحل معك حتى تصل؟

-لا00لتبقى للعناية بأرضك وأسرتك00أما أنا فقد عشت غريبا ً، وأريد أن أرحل غريباً00وأموت غريباً00لعل الله أن يرحم غربتي!


وأراد الوقوف فعجز فتقدم منه سريع ومعبد وحملوه إلى الفرس نزولاً عند إرادته فانكفأ على ظهرها00وربطوه بحبل إليها00وأمر معبد أحد عبيده أن يقود الفرس إلى ظاهر البستان00وتهادت الفرس ببطء إشفاقاً على صاحبها السابق 00لكن لم تمضِ غيرمسافة قليلة حتى ارتخت يداه ومالت عنقه ثم سقط إلى الأرض0

أرادت عطر أن تقول شيئاً فخنقتها العبرة00وتهالك سريع على الأرض حزناً على سيده00وسارع معبد وشقيقه والآخرون إليه00 كان وجهه مضاءً كالمصباح وعلى ثغره ابتسامة!

تـمت


الوديعه 2011-09-24 11:11 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم

ألف شكـــــــــر لمروركم على الموضوع والله يعطيكم ألف عافيــــــــــــــــــــــه


الوديعه 2011-09-24 11:19 AM

بسم الله الرحمن الرحيم


في الرواية السجن الذي هرب منه غياث هو سجن الضلال والطيش التعلق بالدنيا وملاذاتها الزائله فالدنيا هي سجن المؤمن وجنه الكافر
اللهم ارزقنا حلاوة الأيمان وطعم العفو الذة الأسلام
اللهم ارزقنا حسن الخاتمه

شـكــ وبارك الله فيكم ـــرا لكم ... لكم مني أجمل تحية .

زهور.. 2011-09-25 2:39 AM

كانت القصة جداا رائعه كروعة ناقلتها
نتظر جديدك اخت وديعة
بارك الله فيك اخياه

الراجية مغفرة ربها 2011-10-10 10:09 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

اميرة الجنوب 2014-08-29 3:29 AM

قصة جميلة وسرد غاية في المتعة
الدنيا سجن المؤمن

زهرة لوتس 2014-08-29 2:49 PM

قصة رائعة جزيت خيرا

::::نورهـ:::: 2014-12-02 12:35 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .


الساعة الآن 9:29 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By World 4Arab

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

جميع الآراء والتعليقات المطروحة تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع وللأتصال بالدكتور فهد بن سعود العصيمي على الايميل التالي : fahd-osimy@hotmail.com