![]() |
خواطر قرآنية
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا
قال تعالى:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} الكهف بعد أن أزيل غرُورهم بتأخر العذاب ، وأبطل ظنهم الإفلات منه ببيان أن ذلك إمهال من أثر رحمة الله بخلقه ، ضرب لهم المثل في ذلك بحال أهل القرى السالفين الذين أُخر عنهم العذاب مدة ثم لم ينجوا منه بأخَرة ، فالجملة معطوفة على جملة ) بل لهم موعد ( الكهف : 58 ) . والإشارة بـ(تلك) إلى مقدر في الذهن ، وكاف الخطاب المتصلة باسم الإشارة لا يراد به مخاطب ولكنها من تمام اسم الإشارة ، وتجري على ما يناسب حال المخاطب بالإشارة من واحد أو أكثر ، والعرب يعرفون ديار عاد وثمود ومدين ويسمعون بقوم لوط وقوم فرعون فكانت كالحاضرة حين الإشارة . تفسير ابن عاشور |
معاداة الدين سبيل الهالكين من أطلق بصره في سورة المسد يجد كثيرا من الرسائل والفوائد والبصائر التي تبني الإيمان في القلوب , وتعمق اليقين بالله تعالى, وتدك حصون الغرور والكبر في النفوس. هذه السورة جاءت في ذم أبي لهب وزوجه أم جميل وهما اللذان نصبا نفسيهما لمعاداة النبي ورسالته فنزل القرآن ذاما لهما ومخبرا عن سوء عاقبتهما, فقطع ذم الله لهما كل شرف إلى يوم القيامة… فيا لخسارتهما! وأي عبد أشقى من عبد ذمه ربه وفضحه في عاجلته قبل آجلته؟! ومن تأمل وجد لذلك سرا عجيبا, وهو أنه لما عادى أبو لهب وزوجه وأعلن هذا وقاله في ملأ حين دعا النبي عشيرته إلى الاجتماع ثم نادى فيهم:”إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد” فقام أبو لهب وقال: تبا لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟! فأنزل الله فيه السورة {تبت يدا أبي لهب وتب* ما أغنى عنه ماله وما كسب* سيصلى نارا ذات لهب* وامرأته حملة الحطب* في جيدها حبل من مسد}. وكان أبو لهب -كما جاء في السير- يتبع النبي وهو يدعو الناس في الأسواق فيقول من ورائه :”لا تصدقوه فإنه صابئ كذاب” فيقول الناس : “أهلك أعلم بك لو كان خيرا لاتبعوك”. فيصرف الناس عن دين الله وأعلن العدواة للدين وأهله, فذمه الله وعابه على ملأ أيضا وقطع شرفه إلى يوم القيامة فما يذكر إلا بذم . وهكذا كل من نصب نفسه لله ولرسوله ولدينه معاديا فإن الله يقطعه وينتقم منه ويري الناس آياته فيه ثم يتبعه لعنة وذما يلحقانه في دنياه وآخرته. فالله سبحانه قال:{إنا شانئك هو الأبتر}فمن عادى الله ورسوله ذُمَ وإن كان سيدا في قومه, فما يغني عنه ذلك شيئا:{ما أغنى عنه ماله وما كسب} والله تعالى يقول في الحديث القدسي: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب” فهذا جزاء كل من تسول له نفسه أن يتصدى لحرب الدين وأن ينصب نفسه له معاديا ومتى ما رأيت رجلا أو امرأة فعل هذا فاعلم أنما يسير في طريق الهلاك واللعن |
ماذا قدمت لغد؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر : 18]. هذه وصية الله لنا معاشر المؤمنين، وصية من هو أرحم بنا من أمهاتنا، وأحن علينا من أنفسنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}: أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ} أي ليوم القيامة، قال ابن كثير: “انظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة وسمي يوم القيامة غداً لقرب مجيئه”. { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ}[النحل:77]. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: كررها للتأكيد ولبيان منزلة التقوى التي هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}[النساء:131]. {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} الغد هو المستقبل الذي نخطط من أجله. ونسعى ونجد ونجتهد ونكدح ليل نهار، وحين نسأل لماذا ؟ يكون الجواب: من أجل تأمين المستقبل، ولكن أي مستقبل هذا الذي نخطط؟!! كلنا يعرف الجواب ! ولا اعتراض على أن يخطط الإنسان ويسعى من أجل مستقبله في حياتة الدنيا، ولكن أليس مستقبله الحقيقي هو الآخر جدير بالتخطيط والعمل ؟! كم نمضي من أعمارنا من سنوات على مقاعد الدراسة لتحصيل الشهادات من أجل تأمين المستقبل ؟ وكم نمضي في العمل والوظيفة من أجل جمع المال للمستقبل؟ ومقابل ذلك كم خصصنا من أوقاتنا من أجل تأمين حياة الآخرة التي هي أطول وأبقى؟ وهي الحياة الحقيقية؟ أما تستحق منا أن نخطط لها وأن نبدأ في التحضير لها من الآن ؟ أما تستحق أن نبذل من أجلها الوقت والجهد والمال ؟ فوا عجباً لابن آدم يخطط للمستقبل الذي قد لا يأتي وينسى مستقبله الآتي لا محالة! تجد من الناس من نذر نفسه للوظيفة مخلصاً في عمله مجتهداً بكل ما أوتي من قوة يسابق الطير في بكورها ولا يخرج إلا متأخراً يعمل بلا كلل ولا ملل يشار إليه بالبنان في الجد والاجتهاد ويضرب به المثل في الدوام والانضباط ولكن إذا بحثت عنه في المسجد لم تجده ! وإذا فتشت عنه بين الصائمين لم تعثر له على أثر! وإن تحسسته في الصدقة وأعمال الخير من كفالة يتيم أو نصرة مجاهد أو رعاية محتاج أو إيواء مسكين أو إطعام جائع أو كسوة عار لم تجد له فيها سهماً ولا درهمًا ولا ديناراً. نعوذ بالله من الخسران ومن الذل والهوان. ولنعد إلى الآية الكريمة ونتأمل لفظ {وَلْتَنْظُرْ}: إن النظر يقتضي الفكر والفكر يقتضي التخطيط والتخطيط يقود إلى العمل والمقصود بالعمل هنا العمل من أجل الآخرة والآخرة خير وأبقى كما أخبر ربنا تبارك وتعالى. فيا أختي في الله هل امتثلنا لأمر ربنا وهو العالم بما يصلح حالنا ومآلنا ؟ وهل وقفنا مع أنفسنا وقفة تأمل في لحظة محاسبة وتفكرنا في أعمالنا كم منها نعمله من أجل الآخرة ؟ وهل بإمكاننا أن نقدم أكثر وأكثر؟ هل تفكرنا في أعمال الخير ووضعنا لنا برنامجاً بحيث نضرب في كل مجال منها بسهم. كم قدمنا لآخرتنا من قيام الليل؟ وكم قدمنا من قراءة القرآن -كنز الحسنات- كل حرف منه بحسنة والحسنة بعشر أمثالها؟ كم قدمنا من الصدقات؟ كم قدمنا من الصيام؟ من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا. كم حججنا وكم اعتمرنا؟ كم ذكرنا الله؟ كم هللنا وسبحنا الله وحمدناه وكبرناه في اليوم والليلة؟ وكم وكم من أبواب الخير وأعمال الآخرة التي كلها سهلة وميسورة وفي متناول الفقير قبل الغني والوضيع قبل الوزير؟ ولكن أين المشمرون؟ أين طلاب الآخرة؟ فاليقظة اليقظة يا عبد الله!! لا يأتيك الموت وأنت غافل ساهٍ تركض في حياتك الدنيا تجري وراء متاعها الزائل غافلٌ عن الآخرة والآعمال الصالحة {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون: 99-100]. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر علمنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا، اللهم بصرنا بعيوبنا ونور أبصارنا وأصلح أحوالنا واهدنا إلى صراطك المستقيم. وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. |
نشوة ينبغي ألا تُسكرنا
كثيرا ما ننجز أمورا فتأخذنا الفرحة الغامرة ونعجب بذواتنا وبثناء الناس على قدراتنا..ولكن ينبغي للمؤمن ألا تسكره نشوة النجاح..وليكن حاله كحال ذي القرنين..فإنه لما أتم بناء السد قال:{هذا رحمة من ربي}[الكهف:98]فتبرأ من حوله وقوته ورد الأمر لصاحب الفضل كله.ينظر الظلال4/2293 |
لا تحكم حتى تتبين
رأيت يوما شخصا يسير بسرعة ويصطدم بالناس فوقع في قلبي منه شيء ثم علمت بعد ذلك أن ولده أصيب في حادثة وكان عليه الذهاب إليه بسرعة فعذرته . . فحقا إن الأولى بالإنسان ألا يَحكم على أمر حتى يتبين ما وراءه . . وتأمل كيف أن موسى اعترض على الخَضِر في أفعاله في البداية فلما ظهرت الحكمة رضي |
حقيقة ليتنا نعقلها هناك حقيقة قد غفل عنها كثير منا وهي حقيقة واضحة في القرآن وجلية لا تخفى على ناظر في كتاب الله, هذه الحقيقة هي أن نعلم أنه قد جرت سنة الله في خلقه أنه لا يغير حالا نزلت بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, هذه هي الحقيقة التي لا مفر منها ولا مهرب لمن أراد التمكين والكرامة فلن ينصرنا شخص ولن ترفعنا هيئة ولن يكرمنا مجلس إلا إذا أكرمنا الله, أما إذا أهاننا الله فما ثم مكرم:{ومن يهن الله فما له من مكرم} وإننا نرى الأحداث تتلاحق في أمتنا الإسلامية, تسقط أنظمة, وتتهاوى أبنية, و تفنى أشخاص, ومع كل هذا تتعلق قلوب الناس بالأحداث مؤملة خيرا من وراءها, ونحن نأمل هذا, لكن ينبغي أن نواجه أنفسنا بحقيقة قرآنية:{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} لابد من عودة حميدة إلى الله وكتابه وسنة رسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لو تباعيتم بالعينة وتبعتم أذناب البقر, وتركتم الجهاد في سبيل الله يوشك الله أن يضرب عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم) ولقد قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7] والله سبحانه يقول:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران:160] هذه الحقيقة القرآنية والسنة الربانية التي لا تتغير ولا تتبدل, {وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} فلا تعلق قلبك بغير هذا , لابد وأن ندرك أننا لابد من أن ننصر الله في أنفسنا, وفي حياتنا, حتى يمكن الله لنا. |
الطريق الأمثل للتغيير {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11] يقول صاحب الظلال: “إن الله لا يغير نعمة أو بؤسى، ولا يغير عزا أو ذلة ، ولا يغير مكانة أو مهانة . . إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم ، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم . وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون . ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم ، ويجيء لاحقا له في الزمان بالقياس إليهم . وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته ، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم . والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل . وهو يحمل كذلك إلى جانب التبعة دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله ، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه”.انتهى فيا ليتنا نفهم من أين يكون التغيير إلى الباحثين عن تغيير الوضع, عن تغيير وضع الضنك والشقاء, وانتشار الأمراض والبلاء إلى الباحثين عن تغير الوضع الاجتماعي, وتغيير الوضع الاقتصادي, إلى الباحثين عن إي تغيير كائنا ما كان نقول لهم: اسمعوا إلى ربكم ماذا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11] فتغيير الواقع يكون بأيدينا إذا انتقلنا من معصية إلى طاعة يقول د/سيد طنطاوي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11] أي : إن الله – تعالى – قد اقتضت سنته ، أنه – سبحانه – لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وخير بضده، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة إلى معصية؛ ومن جميل إلى قبيح، ومن صلاح إلى فساد. |
قاعدة التغيير
{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}[الرعد:11]هذه هي قاعدة التغيير..فإذا رأيت قوما عم فيهم الفساد فاعلم أن نفوسهم لم تتغير رغم أنهم يتظاهرون باتباع المنهج الإلهي. وإن شكونا من سوء حالنا فلنعرف أولا ماذا فعلنا ثم نغيره إلى ما يرضي الله عز وجل فيغير الله حالنا. ولذلك إذا وجدت كل الناس يشكون فاعلم أن هذا قد حدث بسبب أن الله غير نعمه عليهم؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم.مستفادة من الشعراوي |
المالك الحقيقي {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26] فصل-سبحانه-بعض مظاهر خلقه التي تدل على أنه هو مالك الملك على الحقيقة فقال-تعالى-: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران : 26] أي: أنت وحدك الذي تعطى الملك من تشاء إعطاءه من عبادك، وتنزعه ممن تشاء، نزعه منهم، فأنت المتصرف في شئون خلقك لا راد لقضائك ولا معقب لحكمك. وعبر بالإيتاء الذي هو مجرد لإعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هي مختصة بالله رب العالمين، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة، وهو شيء زائل لا يدوم . والتعبير عن إزالة الملك بقوله { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } [آل عمران : 26] يشعر بأنه-سبحانه-في قدرته أن يسلب هذا العطاء من أي مخلوق مهما بلغت سعة ملكه، ومهما اشتدت قوته، وذلك لأن لفظ النزع يدل على أن المنزع منه الشيء كان متمسكا به، فسلبه الله منه بمقتضى قدرته وحكمته. قوله { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [آل عمران : 26] . العزة-كما يقول الراغب-حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، من قولهم : أرض عزاز: أي صلبة، وتعزز اللحم: اشتد وعز، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، والعزيز الذي يقهر ولا يغلب. وتذل، من الذل، وهو ما كان عن قهر، يقال: ذل يذل ذلا إذا قهر وغلب والعزة صفة نفسية يحس بها المؤمن الصادق في إيمانه، لأنه يشعر دائما بأنه عبد الله وحده وليس عبدا لأحد سواه، قال-تعالى-:{ وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }[المنافقون:8] فالمؤمنون الصادقون أعزاء ولو كانوا في المال والجاه فقراء. أما الكافرون أذلاء، لأنهم خضعوا لغير الله الواحد القهار. والمعنى: أنت يا الله يا ملك الملك، أنت وحدك الذي تؤتى الملك لمن تشاء أن تؤتيه له، وتنزعه ممن تريد نزعه منه، وأنت وحدك الذي تعز من تشاء إعزازه بالنصر والتوفيق، وتذل من تشاء إذلاله بالهزيمة والخذلان، ثم ختم-سبحانه-الآية بهذا التسليم المطلق من المؤمنين لذته فقال-تعالى-: { بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26] أي: أنت وحدك الذي تملك الخير كله، وتتصرف فيه حسب إرادتك ومشيئتك، لأنك على كل شيء قدير. [الوسيط لسيد طنطاوي - (1 / 581-582)] |
لمن المُلْكُ؟ يقول الله تعالى:{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب}[آل عمران:26] إنها الحقيقة الكبرى التي تؤكد أن أحدا لا يملك شيئا على الحقيقة إلا الله وكل ملك دون ملك الله ناقص بل لا يسمى ملكا على الحقيقة بل هو يملكها تمليك العارية التي يستردها صاحبها متى يشاء, فمن ملكه الله شيئا وجب أن يتصرف فيه على مراد الله وإلا حق للمالك استرداد ملكه في الوقت الذي يريد ولهذا جرت سنة الله تعالى في الأرض على نزع ملكه ممن لم يحسن التصرف فيه {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}[القصص:58] ومن تأمل قوله تعالى:{وتنزع الملك ممن تشاء} بانت له لطيفة وهي تعبيره عن سلب ملكه منهم بالنزع إذ فيه إشارة إلى تمسكهم بالملك وحرصهم عليه ولذا تجدهم يتحصنون بكل شيء يتحصن به ويمتنعون بكل ما من شأنه أن يمنعهم من الله ويظنون:{أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ}[الحشر:2] ولكن من ذا يستطيع أن يقف في وجه القدرة الإلهية:{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}[الحشر:2] إن الله هو المالك الحق لكل مملوك في الأرض وفي السماء, ولازالت الأحداث والوقائع تثبت لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أنه لأحد يملك شيئا على التحقيق إلا الله وما أحداث مصر وتونس منكم ببعيد! لتجري سنة الله في خلقه وتتأكد الحقائق فلا يبقى إلا معاند أو جاحد, ويزداد اللذين آمنوا إيمانا:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[الإسراء:111] الوسوم: الألوهية, الظلم, الملك, قدرة الله |
مالك الملك الله وحده هو المتصرف في هذا الكون يعطي ويمنع {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26] أي: أنت المتصرف في خلقك، الفعال لما تريد.[تفسير ابن كثير] فالله تعالى هو المتصرف في خلقه بلا ممانع ولا مدافع، وله الحكمة والحجة في ذلك. وعبر بالإيتاء الذي هو مجرد لإعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية ، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هي مختصة بالله رب العالمين ، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة ، وهو شيء زائل لا يدوم .[تفسير الوسيط] “وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُلُوكَ الدُّنْيَا مُلْكُهُمْ مُلْكُ سِيَاسَةٍ وَرِعَايَةٍ، لَا مُلْكُ تَمَلُّكٍ وَتَصَرُّفٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وَالْجَدِيرُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ «بِرِيطَانْيَا» تَحْتَرِمُ نِظَامَ الْمِلْكِيَّةِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، بِدَافِعٍ مِنْ هَذَا الْمُعْتَقَدِ، وَأَنَّهُ لَا مَلِكَ إِلَّا بِتَمْلِيكِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَأَنَّ مُلُوكَ الدُّنْيَا بِاصْطِفَاءٍ مِنَ اللَّهِ. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِهِ، مِنْ أَنَّ مُلُوكَ الدُّنْيَا لَا يَمْلِكُونَ أَمْرَ الرَّعِيَّةِ لِأَنَّ طَالُوتَ مَلِكًا، وَلَيْسَ مَالِكًا لِأَمْوَالِهِمْ. بَيْنَمَا مُلْكُ اللَّهِ تَعَالَى مُلْكُ خَلْقٍ وَإِيجَادٍ وَتَصَرُّفٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} وَعَلِيمٌ قَدِيرٌ هُنَا مِنْ خَصَائِصِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ بِعِلْمٍ وَعَنْ قُدْرَةٍ كَامِلَيْنِ سُبْحَانَهُ، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَتَظْهَرُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ إِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الْحَقُّ، فَيَتَلَاشَى كُلُّ مُلْكٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَيُذَلُّ كُلُّ مَلِكٍ كَبُرَ أَوْ صَغُرَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُلْكُهُ تَعَالَى يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}”[أضواء البيان] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة “إسحاق بن أحمد” من تاريخه عن المأمون الخليفة: أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية، فعرب له، فإذا هو: باسم الله ما اختلف الليل والنهار، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك. ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك[تفسير ابن كثير] فهل من معتبر بمثل هذا |
مالك الملك {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران : 26]. يقول تعالى : {ْقُلِ} يا محمد ، معظمًا لربك ومتوكلًا عليه ، وشاكرًا له ومفوضًا إليه: {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أي: لك الملك كله {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} أي: أنت المعطي، وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن. وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذه الأمة، لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبيا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق، في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، ما تعاقب الليل والنهار. ولهذا قال تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم عليه في أمره ، حيث قال: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31] . قال الله تعالى ردًا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}[ الزخرف:32] أي: نحن نتصرف في خلقنا كما نريد، بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة والحجة في ذلك، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124] وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}[الإسراء:21]. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إسحاق بن أحمد من تاريخه عن المأمون الخليفة: “أنه رأى في قصر ببلاد الروم مكتوبًا بالحميرية، فعرب له، فإذا هو: باسم الله ما اختلف الليل والنهار***ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن ملك*** قد زال سلطانه إلى ملك وملك ذي العرش دائم أبدا***ليس بفان ولا بمشترك تفسير ابن كثير |
ذل البرامكة
لما أذل البرامكة بعد أن كانوا أعزة وزراء وسكنوا غياهب السجون بعد أن كانوا منعمين في غرف القصور سأل أحدهم أباه فقال له يأبت ما هذا الذل الذي أصابنا بعد العز وما هذا الفقر الذي حل بنا بعد الغنى؟! فقال أبوه:يا بني دعوة مظلوم أصابتنا في ظلام الليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها!!وصدق الله حين قال:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران:26] |
من فعل المأمور ساعده المقدور
المؤمن هو الذي ينظر إلى قدر الله وقدرته وقضائه وعزته فيعلم أن الله لا تعارضه الأسباب وإن عظمت فإن القدر إذا جاء اضمحلت أمامه الحصون والأسباب:{وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا}[الحشر:2]ولكن حكمة الله اقتضت أن تفعل الأسباب وتبني الحصون فمن فعل المأمور ساعده المقدور:{ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون}[المائدة:23] المواهب الربانية:103 الشيخ السعدي-بتصرف |
اختبر إيمانك الخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعاً بينهم، لكن طبيعة النفس الشُحّ، فتنازعوا، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصِمَيْن: أتريدان أن أحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ فيفزعان ويقولان: أهناك خير من العدل؟. يقول: نعم إنه الفضل، فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع، أمَّا إذا حدث الشجار فلا بد من الفصل. ومن الذي يفصل؟. إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النساء:65]. فالإيمان ليس قوله تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول لا إله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله فلا بد أن لهذا القول وظيفة، وأن تُحكِم حركة حياتك على ضوء هذا القول، فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط! وينتهي الأمر، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفرّ منه. {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} بمنهج الإسلام {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} فهذا هو التطبيق {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ولا يصح أن يحكموك صورياً، بل لا بدّ أن يحكموك برضا في التحكيم، {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} أي ضيقاً{مِّمَّا قَضَيْتَ}. فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه, ولا تضيقوا به {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}أي: يُذْعِنُوا إذعاناً. إذاً فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول. بأن تلجأ إليه في العمليات الحركية في الحياة، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} حتى يترجم الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً}[النساء:65] لأنه قد يجد حرجاً ولا يتكلم. وانظروا إلى الثلاثة: الأولى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ}[النساء:64]، هذه واحدة، {فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ} [النساء:64] هذه هي الثانية، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}[النساء:64]هذه هي الثالثة، هذه ممحصات الذنوب، والذي يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضاً: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]هذه هي الأولى، {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ}[النساء:65]هذه هي الثانية، و {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[النساء:65] هذه هي الثالثة. إذاً فالقولان في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دخول حظيرة إيمان، وخروج من غلّ ذنب. [تفسير الشعراوي- ( / 346)] |
هذا البرهان فقدمه
يا من تريد إثبات حبك هذا البرهان فقدمه:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء : 65] إن كثيرا من الناس يزعم أنه محب لرسول الله ,فإذا نظرت إلى حاله وأعماله, فما ثم دليل على هذه المحبة وما ثم برهان, إنما هي أقوال المتقولين ومزاعم الزاعمين! هذا البرهان فقدمه: أيها المسلم كثيرا ما نحب إنسانا ونود من سويداء قلوبنا أن نثبت له أو أن نقدم له ما يدل على هذه المحبة فنعجز وأما الحال مع رسول الله فمختلف فالبرهان موجود:{ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فما بقي إلا الإثبات, أن تثبت محبتك له بأن تحتكم إليه إلى سنته في كل شيء , تحتكم إلى ما جاء به في كل أمر من أمور في حياتك, ثم ترضى فلا تجد في نفسك حرجا ما قضائه صلى الله عليه وسلم, ولقد قيل في شأن ما يقتضيه مطلق الحب: إن المحب لمن يحب مطيع فكيف بمن طاعته واجبة, واتباعه لازما, وهو الذي جمع أسباب المحبة في شخصه وأخلاقه وكذلك اقتضاها كونه رسولا من عند الله ؟! إننا نحتاج إلى أن نصدق في محبتنا لرسول وإلا فقد رد الله على الزاعمين زعمهم فقال سبحانه: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت – وقد أمروا أن يكفروا به – ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } . فالتحاكم إلى سنة رسول هو برهان حبك فهيا أيها المحب. |
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فمن الآيات التي صدر بها الإمام النووي -رحمه الله- باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها- قوله تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء:65]. فالله -جل جلاله- يقسم هذا القسم بنفي الإيمان عنهم حتى يحكموا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما شجر بينهم، وذلك فيما وقع بينهم من الخلاف، ويجعلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكماً بينهم، ينفذ حكمه عليهم أعظم من نفوذ أحكام نفوسهم على نفوسهم، وهذا من مقتضى إتباعه -صلى الله عليه وسلم- وطاعته ومحبته، أن يكون عليه الصلاة والسلام هو المطاع وهو المقدم وهو الأولى بالإنسان من نفسه، كما قال الله -عز وجل- في سورة الأحزاب: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، ويدخل في ذلك ألوان من هذه الأولوية له -عليه الصلاة والسلام-، فهو أولى بالمحبة وأولى بالطاعة وأولى بالتقديم وأولى بالإجلال والإعظام، وحكمه عليهم أنفذ من حكمهم على أنفسهم. كل هذه المعاني داخلة في قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فمن طلب التحاكم إلى غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد خاب وخسر وصار متحاكماً إلى الطاغوت. والله -عز وجل- يكذب هؤلاء معبراً عن إيمانهم المدعى بأنه مزعوم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}[النساء:60-61]. فالمقصود أن هؤلاء الذين لا يتحاكمون إليه -صلى الله عليه وسلم- في حياته، ويرفضون التحاكم إلى شرعه وسنته بعد موته -عليه الصلاة والسلام-. وهذا من مقتضى تحكيمه كما في هذه الآية: {حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ}: أي يحكموا شرعك وسنتك {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، وليس ذلك فحسب، بل {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} أي: لا يجدوا ضيقاً من حكمك ويسلموا من غير معارضة ولا تردد، وإنما ينقادون تمام الانقياد، فهذه حقيقة الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ}[النساء:59]، إن تنازعتم في شيء: وشيء نكرة في سياق الشرط تعم، أي في أي شيء، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}، فهذا هو النهج الصحيح لرفع الخلاف بين الناس، فإذا وقع بينهم إشكال أو خلاف فإنهم يرجعون إلى هذا الأصل الكبير، التحاكم إلى الشرع، التحاكم إلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والشيطان قعد للناس في كل مرصد بكل طريق يصدهم على سبيل الله -عز وجل- والإنسان حينما يتفكر في ضلال من ضل يتعجب يقول: كيف افترقت هذه الأمة إلى هذه الفرق وعندهم كتاب الله -عز وجل- وعندهم سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ ولكن إذا نظرت وجدت أن هذه الطوائف قد وضع الشيطان لهم سدوداً تحول بينهم وبين طاعته -صلى الله عليه وسلم- والتحاكم إلى شرعه، فالرافضة مثلاً إذا قيل لهم: تحاكموا إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لنعرف المحق من المبطل، قالوا: هذا القرآن محرف ولا يوثق به، وهذه السنة رواها صحابة كفرة ارتدوا على أعقابهم لم يبق إلا نفر قليل، فكيف نثق بها؟ ومن قال: إن الرسول هو الذي قالها؟ فهؤلاء كيف ترجع معهم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ تحتاج أن تثبت لهم أولاً أن القرآن غير محرف، وأن الصحابة لم يرتدوا، ثم بعد ذلك تطالبهم بالتحاكم إلى الكتاب والسنة، وإذا سألتهم: ترجعون إلى ماذا؟ يقولون: عندنا أقوال الأئمة المعصومين. جعلوا بشراً من غير الأنبياء لهم العصمة بأن لهم درجة ومرتبة تخضع لها جميع ذرات الكون، وأن كلامهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وإذا أتيت إلى الصوفي وقلت له: نتحاكم معك إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال: أنتم تروون ميتاً عن ميت، حدثني فلان، حدثني فلان، حدثني فلان، ونحن نحدث عن الحي الذي لا يموت، يقول: حدثني قلبي عن ربي مباشرة، بالمواجيد والأذواق والإلهام الذي يدعون أن الله ألهمهم إياه، فهذا كيف ترجع معه إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وإذا نظرت أصحاب النـزعة العقلية من المعتزلة من المعاصرين والقدامى وقلت لهم: نتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فنعرف الحق. قالوا: الكتاب والسنة ما لم يثبت بطريق التواتر فإنه لا يوثق به في العقائد، وما ثبت بطريق التواتر فهذا يحتمل أن يكون منسوخاً أو مقيداً أو مؤولاً أو مجملاً أو نحو ذلك، وإنما نرجع إلى الأصل الكبير الذي لا يحصل فيه هذا التفاوت وهو العقل، هو الذي يحكم في القطعيات! نقول لهم: حتى هذا العقل يتفاوت الناس فيه، ولذلك اختلفتم على فرق كثيرة، فالمعتـزلة فرق يلعن بعضها بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، اختلفتم بالعقل، ولهذا جاءت طائفة فقالوا: حتى العقل لا يوثق بحكمه؛ لأنه يتفاوت، إذن: ماذا تريدون؟ قالوا: نرجع إلى الحس؛ الحس لا يخطئ، فجاءت طائفة فقالوا: حتى الحس يرى العصا في الماء منكسرة ويرى النجم من بعيد صغيراً، ويرى الإنسان على هيئة الشجرة من بعيد، حتى الحس، إذن: وماذا تريدون لا شرع ولا عقل ولا حس؟ ظهرت طوائف السفسطائية وأناس لم ينتفعوا ببعث الأنبياء أصلاً -عليهم الصلاة والسلام- وإذا قرأت في كتب بعض هؤلاء تقول: هؤلاء ما نظروا في الوحي، حتى إن بعضهم لما أراد أن يقرأ وهو من علماء المتكلمين، أراد أن يقرأ آية فتح المصحف وبدأ يقرأ في سورة الأعراف: المصّ، يريد قوله تعالى: {المص} [الأعراف:1]، عالم ما يعرف يقرأ: {المص}، يقرأ: المصّ هذا عالم، ما يعرف يقرأها!! فهؤلاء أئمة الضلال، والله -عز وجل- يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النساء:59]، ما يرد إلى العقل، ولا إلى الذوق، ولا إلى المواجيد، ولا إلى أئمة تدعى لهم العصمة، يقول: قال العلماء معناه إلى الكتاب والسنة -هذا بعد موته -عليه الصلاة والسلام-. وقال تعالى:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء:80]؛ لأن ربه أمره بأن يأمر الناس، وأجرى ذلك على لسانه، وأوحاه إليه فطاعته من طاعة الله -عز وجل-. وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52-53]، تهدي أي هداية إرشاد ودلالة تدل الناس على الحق، وعلى الصواب في كل أمر من أمورهم، وذلك فيما يقيم لهم حياتهم الدنيا على وجه الكمال، وما يقيم لهم آخرتهم وتحصل لهم به النجاة. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}: الصراط هو الطريق الواسع الذي يسترق المارة، فصراط الله -عز وجل- صراط مستقيم، والسبل من جانبيه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- قال: “كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: ((هذا سبيل الله))، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153][ رواه ابن ماجه افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (11) (ج / ص 6)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (ج 1 / ص 7).]. وفي رواية عند ابن حبان من حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطاً فقال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: (وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)، ثم تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} إلى أخر الآية [صحيح ابن حبان (ج1 / ص 180) وقال شعيب الأنؤوط: إسناده حسن]. هؤلاء ليبرالية، وهؤلاء علمانية، وهؤلاء حداثة، وهؤلاء صوفية، وهؤلاء تيجانية، وهؤلاء رافضة، وهؤلاء معتزلة، وهكذا من الفرق القديمة والحديثة، فهذه السبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه. وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}: الأمر هنا مفرد مضاف إلى معرفة –الهاء- وذلك للعموم، فليحذر الذين يخالفون عن أوامره أن تصيبهم فتنة، والفتنة تفسر بمعان: الفتنة تأتي بمعنى الشرك، وتأتي بمعنى العذاب الذي يقع بهم سواء كان ذلك بالمحق والإهلاك، أو كان ذلك بما يحصل من تقليب قلوبهم وإزاغتهم وضرب قلوب بعضهم ببعض، كما قال -عز وجل-: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}[الأنفال:25]، لما قال –جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:24-25]. فإذا رد الإنسان سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه قد يقلب قلبه -نسأل الله العافية- ويطمس عليه، وبعد ذلك لا ينتفع بوعظ واعظ ولا بآية، ولا بسنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يلقى الله -عز وجل- على شر حال. ولقد سأل رجل الإمام مالك -رحمه الله- قال له: أريد أن أحرم من بيتي، أو من قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القبر، فقال: لا، إلا الميقات، فقال: وماذا علي إذا زدت، إنما هي مسافة يسيرة، يعني من قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ميقات المدينة في أبيار علي، في ذي الحليفة، فقال: إني أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنة؟ قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، والمقصود بالحكمة هنا هي سنته -صلى الله عليه وسلم- وذلك أن الله -عز وجل- وجه أمهات المؤمنين إلى القرار في البيوت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وجههن إلى هذا الاشتغال النافع في قعر البيوت، وهي التشاغل بكتاب الله -عز وجل- تلاوة وتدبراً وتفهماً وتعلماً، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كذلك بالعمل بها ومتابعتها، فتبقى المرأة في بيتها عاملة بطاعة الله -جل جلاله- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]. هذا هو الذي أمرنا الله -عز وجل- به، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [المصدر: مقال: لم ينتفعوا ببعث الأنبياء-الشيخ/خالد بن عثمان السبت] |
من أصول الإيمان الاحتكام إلى الله ورسوله هو المحك الرئيس بين الإيمان والكفر، وهو فيصل التفرقة بين المؤمن وغير المؤمن، فمن صدر في سلوكه عن حكم الله ورسوله فقد هُدي إلى صراط مستقيم، ومن أعرض عن حكمهما، ونأى بنفسه عن شرعهما فقد ضل سواء السبيل. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء : 65] فهذه الآية تسلب وصف الإيمان عن كل من لم يحتكم في أمره كله إلى شرع الله ورسوله. فالاحتكام إلى الله ورسوله هو المحك الرئيس بين الإيمان والكفر، وهو فيصل التفرقة بين المؤمن وغير المؤمن، فمن صدر في سلوكه عن حكم الله ورسوله فقد هُدي إلى صراط مستقيم، ومن أعرض عن حكمهما، ونأى بنفسه عن شرعهما فقد ضل سواء السبيل. يقول السعدي في تفسيره: أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم، أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف، بخلاف مسائل الإجماع، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا يكفي ذلك (2) حتى يسلموا لحكمه تسليما بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن. فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها. فمن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر، ومن تركه، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين. انتهى فالعبد في مقابل كلام رسول الله لا ينبغي له إلا التسليم والاستسلام حتى وإن خالف هذا الكلام جموع الناس, لأن مخالفة الرسول وعدم التسليم لحكمه عرضة لوقوع الفتن والعذاب الأليم بالمخالفين. { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور : 63] |
وقعه عجيب
سرُّ إعجازِ القرآنِ -كما يقولُ الإمامُ الخطابي- هو: صنيعُه بالقلوب، وتأثيرُه في النفوس. فإنك لا تسمعُ كلاماً -غير القرآن- منظومًا أو منثورًا إذا قَرَعَ السمعَ خلصَ منه إلى القلبِ من اللذَّةِ والحلاوةِ في حالٍ، ومن الروْعةِ والمهابةِ في أخرى ما يخلصُ منه إليه. تستبشرُ به النفوسُ، وتنشرحُ له الصدورُ، حتى إذا أخذتْ حظَّها منه عادتْ مرتاعةً قد عَرَاها من الوجيبِ والقلقِ، وتَغَشَّاها من الخوفِ والفَرَق ... ما تقشعرُّ منه الجلودُ، وتنزعجُ له القلوب .. يحولُ بين النفس وبين مُضمراتها وعقائدِها الراسخةِ فيها. فكم من عدوٍّ للرسولِ -صلى الله عليه وسلم- من رجالِ العربِ وفتَّاكها، أقبلوا يريدون اغتيالَه وقتلَه، فسمعوا آياتِ القرآنِ، فلم يلبثوا حين وقعتْ في مسامعِهم أنْ يتحوَّلوا عن رأيهم الأول، وأنْ يَرْكَنُوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارتْ عداوتهم موالاةً، وكفرهم إيمانًا. [المصدر: البيان في إعجاز القرآن للخطابي ص64] |
دعوة
لو تأملنا في حوار النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المدعوين، وماذا كان يقول لهم؛ لوجدنا أنه في كثير من المواقف يكتفي بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ويُحْدِثُ هذا أثراً عظيماً في النفوس. لقد كانت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- لآية من القرآن تَشدُّ الكافر والمنافق والمشرك، و تبين له الحق. ولا يَقُلْ أحدٌ: "إنَّ هذا خاصٌّ بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-"؛ بل هو ممكن لكل مَن سَلَكَ سبيلَه واقتدى به. وهو بهذا مستجيب لربه -سبحانه وتعالى- الذي أمره بذلك؛ إذ يقول: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}[ق:45]. وبقوله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}[التوبة:6]. وقوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}[النمل:92] فَلِمَ لا يكون حوارُنا، وتكون خُطَبُنا، مواعِظُنا تنطَلِقُ وتَدُورُ في فلكِ آيات القرآن الكريم؟! نبدأ بالاستشهاد بها في كلِّ ما نريدُ إيصالَه إلى المدعوين من تربيةٍ وتعليمٍ. [مفاتح تدبر القرآن ص38 - الدكتور/ خالد اللاحم] |
إن في قصصهم لعبرة
القصص التي تأتي في القرآن، إنما جاءت؛ ليعتبر الناس ويتأملوا، فحين يرسل الله رسولاً مؤيَّداً بمعجزة منه لا يقدر عليها البشر، فعلى الناس أن يسلّموا ويقولوا: "آمنا"، لا أن يظلوا في حالة إعادة للتجارب السابقة؛ لأن ارتقاءات البشر في الأمور المادية قد تواصلت؛ لأن كل جيل من العلماء يأخذ نتائج العلم التي توصل إليها مَنْ سبقوه، فلماذا لا يحدث هذا في الأمور العقدية؟ ولو أن الناس بدءوا من حيث انتهى غيرهم؛ لوجدنا الكلَّ مؤمناً بالله تعالى، ولأخذ كل مولود الأمر من حيث انتهى أبوه، ولَوصَل خير آدم إلى كل من وُلِدَ بعد ذلك، لكن آفة البشر أن الإنسان يريد أن يجرب بنفسه. ونحن نجد ذلك في أمور ضارة؛ مثل: الخمر، نجدها ضارة لكل من يقرب منها، فإذا حرَّمها الدين وجدنا من يتساءل: لماذا تُحرَّم؟ وكذلك التدخين؛ نجد من يجربه رغم أن التجارب السابقة أثبتت أضراره البالغة، ولو أخذ كل إنسان تجارب السابقين عليه؛ لوصل عمره بعمر الآخرين. [المصدر: تفسير الشعراوي – محمد متولي الشعراوي / ص 1443] |
لا كرب وأنت رب
جمع موسى بني إسرائيل، وهم بقايا ذرية آل يعقوب؛ ليذهب بهم إلى أرض الميعاد، وسرعان ما أعدَّ فرعون جيشه وجمع جموعه، وسار خلفهم يتبعهم إلى ساحل البحر، فإذا بموسى وقومه مُحَاصرين: البحر من أمامهم، وفرعون بجيشه من خلفهم، وليس لهم مَخْرج من هذا المأزق. هذا حُكْم القضايا البشرية المنعزلة عن ربِّ البشر، أما في نظر المؤمن فلها حَلٌّ؛ لأن قضاياه ليست بمعزل عن ربه وخالقه؛ لأنه مؤمن حين تصيبه مصيبة، أو يمسه مكروه ينظر فإذا ربُّه يرعاه، فيلجأ إليه، ويرتاح في كَنَفِه. لذلك يقولون -في خطابهم لله-: لا كَرْبَ وأنت ربٌّ، وما دام لي رب ألجأ إليه فليست هناك معضلة، المعضلة فيمن ليس له رَبٌّ يلجأ إليه. وقد ضربنا لذلك مثلاً -ولله المثل الأعلى- لو أن إنساناً معه في جيبه جنيه، فسقط منه في الطريق، فإذا لم يكُنْ عنده غيره يحزن، أمّا إنْ كان لديه مال آخر فسوف يجد فيه عِوَضاً عَمَّا ضاع منه، هذا الرصيد الذي تحتفظ به هو إيمانك بالله. وهنا جاء الأمر من الله تعالى لموسى-عليه السلام- ليُخرجه وقومه من هذا المأزق: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً}[طه:77]. [المصدر: تفسير الشعراوي - محمد متولي الشعراوي / ص 2408] |
جزاك الله كل خير |
الساعة الآن 1:35 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
TranZ By World 4Arab